هنا هبط أبونا آدم عليه السلام جالبا معه بعضا من بركات السماء وشيئا من نعيم الجنة.. حيث اتفقت عدة روايات لأهل السير على هبوطه عليه السلام بالقارة الهندية، إذ يوجد في أعلى قمة في سيرلنكا اليوم ما يعتقد أنه خطوة النبي آدم التي يصل طولها إلى نحو ذراعين.
في أرض الأحلام والأساطير هذه تواصل التاريخ بأشكال شيقة متعددة في ملحمة اختلطت فيها الأديان والأعراق.. اختلاط حدائق تلك البلاد، التي زرع الله ظاهرها بأنواع من الخيرات يسقيها بغمام لا ينقطع طله.. وباطنها باللؤلؤ والزبرجد والياقوت وأندر الأحجار الكريمة النفيسة.
والتي تحاول اليوم تقديم نفسها مجددا إلى العالم العربي محاولة استعادة التاريخ الذي بدأه ابن بطوطة، واختتم بفارس الشعر العربي محمود سامي باشا البارودي الذي قضى 17 عاما في المنفى هناك في جزيرة سرنديب التي صاغ فيها أجمل ألحانه، وشدا فيها أجمل قصائده حيث علم أهلها العربية والإسلام، وحسبها
(سيرلنكا) ذلك الشرف.
سيـــــــــــــــرلانكا
سنرديب أو سيلان أو سيرلنكا، وكلها أسماء أطلقت في فترات تاريخية متفاوتة على هذه البلاد.. التي تعيش اليوم على أمل إعادة حلقات التواصل مع العالم العربي والإسلامي،
قصة الشاي
في رحلتنا إلى حدائق الشاي التي تبدأ قرب مدينة نوريليا ذات الوجه الجميل الهادئ المتسم بالربيع طوال العام.. تبدأ أسراب من الحمام -كما سيخيل إليك- تغازل ناظريك على مرتفعات المنطقة التي تكسوها حدائق الشاي، لكن المرشد السياحي أكد لنا أن هذه الأسراب ليست سوى قاطفات الشاي اللائي يذهبن في أسراب إلى أعلى مرتفعات جبال نوريليا لقطف محصول الشاي الذي يسقيه الغمام في أعلى القمم مباشرة.
وهنا في هذه الجنان، توجهنا إلى أحد المصانع لمعايشة قصة الشاي الذي جلب بذوره اللورد البريطاني جيمس ستيلار من الصين عام 1867 م محولا مستعمرة سيرلنكا في ذلك الوقت إلى مزرعة شاي للتاج البريطاني.
كانت في استقبالنا مجموعة من قاطفات الشاي، وهن فتيات تاميليات جلبت أجيالهن الأولى من الهند قبل نحو قرنين على أيدي البريطانيين لقطف الشاي، وقد استطاعت أجيالهن الاندماج مع هذه المهنة عبر أجيال وأجيال في رحلة بدأت بما يشبه الرق من قبل الاحتلال البريطاني، ولكن فتيات الشاي أو ذوات الأصابع الذهبية استطعن التأقلم في سيرلنكا بعد الاستقلال خاصة، حيث وجدن الاهتمام والاستقرار والحياة .. فتزوجن وأنجبن أجيالا من قاطفات الشاي، ويبدو أنها المنطقة الوحيدة في العالم التي تعد فيها المولودة الأنثى خيرا من المولود الذكر، فمهنة الأنثى مضمونة هنا لتوفر الحقول وكثرتها.
راقبنا عن قرب أنامل ناعمة وسريعة كالبرق تلامس أعلى الغصن لقطف ورقتين فقط هما أعلى ما في شجرة الشاي بسرعة فائقة وسير حثيث مستمر يخيل إليك أن الأوراق هي التي تتمايل مقدمة أعناقها لقاطفات الشاي، راقبنا هذه الأعجوبة، وحاولنا عبثا أن نشارك بقطف بعض الأوراق لكن هيهات، فقد امتنعت عنا تلك الأوراق مما زرع ابتسامة عريضة على أفواه التاميليات، وكأن لسان حالهن يقول "دعوا القطف لنا واستمتعوا بالشاي"، استمرينا وحملنا معهن بعض السلال المليئة بالشاي، وهناك في المصنع سلمنا سلالنا لنراقب عن كثب عملية الإنتاج، التي تمر بعدة مراحل تبدأ بفرز الورق واستخلاص أفضله، ثم مرحلة تصنيف الشاي وغربلته إلى ما يصل إلى نحو 20 عملية، ينتج في آخرها مالا يقل عن 9 أنواع من الشاي، أفخرها إطلاقا المستخرج من ساق ورقة الشاي ويسمى الشاي الفضي.
ولا شك أن استئثار سيرلنكا بزراعة الشاي كان بسبب مناخها الاستوائي، وهو ما جعل عملية الحصاد مستمرة طوال العام، فالعاملة الواحدة تقطف يوميا ما معدله 20 كيلو غراما، مع الإشارة إلى أن شجرة الشاي يصل طولها إلى نحو 15 مترا، ولكن يتم قطع الشجرة باستمرار ليبقى طولها في حدود متر واحد، وهو ما سيمكن ويساعد في عملية القطف دون أي عناء يذكر.
تجمع المصانع المتعددة حصادها بين حين وآخر ليعرض في مزادات الشاي في العاصمة السيرلنكية كولومبو، وهناك يتنافس سماسرة الشاي الدوليون في المزاد فترتفع الأسهم وتنخفض، حسب جودة المحصول وكميته.
وبحكم الاحتلال البريطاني الطويل فقد كانت صناعة الشاي تحت الإدارة البريطانية المباشرة، وكانت شركة بروك بوند العملاقة صاحبة النصيب الأوفر في هذه الصناعة، استمرت هذه السيطرة حتى عام 1972م تاريخ تأميم صناعة الشاي في سيرلنكا من قبل الحكومة، التي أرادت إنهاء استغلال الشركات العالمية لأرضها عقودا طويلة.
توقعت أثناء الرحلة أن اكتشف نوعا جديدا من أنواع تقديم الشاي في سيرلنكا بحكم زراعته هناك مثل الطقوس الصينية أو المغربية في تقديم الشاي الأخضر، لكن يبدو أن السماور التركي أو الروسي أو العراقي سيبقى أفضل وسيلة يقدم الشاي الأسود بواسطتها.
وفيما يبدو فالسيرلنكيون اكتفوا بالتفنن في زراعة الشاي وحصاده وتصنيعه فقط دون أن يكتشفوا طرقا أو أساليب جديدة لتقديمه، ربما لأن البريطانيين الذين جلبوا الشاي لم يكن اهتمامهم ينصب على ذلك. لكن هذا لم يمنعهم من ابتكار مئات النكهات الذكية والمعطرة، التي يقدم غالبها في شتى فنادق البلاد، ومتاجر الشاي الفاخرة المنتشرة في مدن البلاد، وهناك يمكنك شراء أفضل الأنواع الفاخرة والهدايا القيمة للعودة بأجمل ذكريات أرض سيلان.
ولا يفوتنا أن نشير إلى أن سيرلنكا ليست حديقة الشاي الأولى في العالم فحسب، بل تعد بحكم طبيعتها الخلابة ومناخها الاستوائي واحدة من جنان الله على الأرض، إذ توجد فيها أكبر محميات طبيعية لشتى مخلوقات الله، منها ما اعتبره العلماء أول محمية طبيعية للحياة البرية في العالم يرجع تاريخها للقرن الثالث قبل الميلاد، و"طيور الجنة" التي جعلت هذه البلاد فردوسا لأغرب وأجمل طيور الدنيا التي تصل أنواعها إلى 472 نوعا ، ناهيك عن قمة الفراشات التي تعد أعجوبة من أعاجيب الدنيا ورائعة طبيعية من روائع أرضنا، تلك القمة التي تؤوي قرابة 300 نوع من أجمل وأرق الفراشات التي تعيش في هضبات منخفضة يصل ارتفاعها إلى 3000 قدم فوق مستوى سطح البحر، كما يعيش بعضها في ارتفاع يصل إلى 4 آلاف قدم، تذهب جميعا في هجرات جماعية إلى سري آباد حيث "قدم آدم" (الجبل المقدس عن البوذيين في سيرلنكا).
ستفاجأ مثلي إذا كنت تزور سيرلانكا لأول مرة في حياتك بثراء جمالي يشدك.. ويصيبك بالدهشة والندم على تلك الأيام والسنين التي مرت من عمرك دون أن تصل الى هذه البلاد.. أو تفكر بزيارتها رغم انك تجدها ماثلة أمامك وبين يديك كل صباح ومساء من خلال فنجان الشاي الذي تتناوله.. والذي عرفت «سيلان» أو سيرلانكا انها المنتج الأول له على مستوى العالم.. ولهذا أطلق عليها بلاد الشاي الذي لا ينضب، ولا تتوقف أشجاره عن الثراء والعطاء.. ومد العالم بهذه النبتة التي يتلذذ العالم بتناولها كل يوم.
وقد أوضح السيد بندرونايس بريرا المرشد السياحي في الرحلة ان أوراق الشاي تقطف ثلاثة مرات في الأسبوع على امتداد أيام السنة.. وتتجاوز الأراضي المزروعة بهذه النبتة أكثر من ثلثي مساحة سيرلانكا.
في سيرلانكا يجب ألا تفاجأ إذا وجدت أفعى تتدلى فوق رأسك.. أو فيلا يلقي عليك تحية الصباح؟!
بالنسبة لنا كان منظر تلك الحيوانات الشرسة مخيفاً ومفزعاً.. ولكنه في نفس الوقت كان مدهشاً جداً.. ومشيراً للعديد من الخيالات والتأملات.. ولم نكن نعلم اننا عندما سنصل إلى الفندق الذي سنسكن فيه في هيبيرانا سنصبح وسط هذه الحيوانات.. وانه يجب ألا نندهش إذا وجدت وأنت مستغرق في تناول فطورك أو عشائك بأن سنجاباً ينسل من بين قدميك، أو ان افعى ضخمة ترمقك بنظرة شرسة عابرة وهي تندس وسط الأحواش بشكل يجعل شعر رأسك إذا كان لا يزال في رأسك بقية منه يقف.. وهناك العقارب والسحالي التي تتجول بكل حرية بصورة تجعلك غير قادر على مغادرة غرفتك في الليل خوفاً من أن يحدث احتكاك غير مرغوب فيه بينك وبين جيرانك الذين يعتبرون سكان هذه المجمعات الحقيقيين رغم هذا الفندق الضخم الذي يعود بناؤه لعهد المستعمر.. ورغم تلك البيوت المتناثرة وسط الغابات للأهالي.. ولكنهم يبدو انهم عرفوا كيف يتعاملون مع هذه الحيوانات وهذه الهوام بطريقة مرضية للطرفين.
في هيبيرانا لا غرابة في أن تجد فيلا على يسارك يلقي عليك تحية الصباح من خلال تحريك خرطومه الطويل أو يشنف أذنيك بصوته الصاخب الذي يشبه صوت عجلات القطار على قضبان الحديد.. ولا غرابة ايضاً أن تجد افعى ضخمة تتدلى من على أغصان الأشجار العالية ربما كانت تؤدي تمرينا صباحيا لتقوية العضلات.. وربما كانت تتربص بفريسة تملأ بها بطنها.. المهم يجب أن تحذر ألا تكون انت الضحية.
الطريف في الأمر ان الأفيال في سيرلانكا لها مكانة كبيرة.. تجدها في كل مكان تذهب إليه.. وقد بلغ من اهتمامهم بها أن أصبحت من الحيوانات المستأنسة والتي يستخدمونها في حياتهم اليومية.. فلا تستغرب ان تجد سيرلانكيا يمتطي ظهر أحد الأفيال الضخمة ويتجول فيه بين الأسواق وارتال السيارات.. وقد علق المرشد السياحي السيد بريرا على ذلك يقوله وهو يبتسم الأفيال عندنا مثل الإبل عندكم؟!