الموضوع: اللاّتوازن
عرض مشاركة واحدة
  المشاركة رقم: 1  
قديم 13 / 03 / 2006, 48 : 03 PM
الولاء
ضيف
المنتدى : الثقافة الاسلامية 2005-2010
تاريخ التسجيل العضوية المشاركات بمعدل المواضيع الردود معدل التقييم نقاط التقييم قوة التقييم
10 / 03 / 2006 1727 3 0.00 يوميا 229 10 الولاء is on a distinguished road
الولاء غير متصل

اللاّتوازن

المشهد الأول:

جمع من الناس يسيرون بهمّة ويتوجّهون بشغف وشوق في ليالي شهر رمضان الكريم إلى منبر هذا الواعظ أو ذاك يرومون الفائدة والتقرّب إلى الله، يجلسون ساعة أو بعض الساعة يستمعون إليه، ثم ينتقلون إلى مسجد آخر ليجثوا عند منبر رجل دين آخر؛ نيّتهم أن لا تمضي ليالي الشهر الكريم بلا عمل يُدّخر خيره ليوم غدٍ (اليوم الآخر). يعود هذا وأمثاله إلى البيت لا همّ لديه إلاّ أن يواصل أوراده وعبادته وتهجّده ويؤدّي ما تبقّى من أعمال عبادية ليكتب لنفسه المزيد من الأجر والثواب، وينسى في هذا الخضم واجباته الأبوية والزوجية وإذا ما فكّر أن يؤدّيها فإنه يؤدّيها مكرهاً وعلى مضض لأنه يشعر أنها تشغله عن ارتقائه الروحي وكماله المعنوي، وتُختصر واجباته الاجتماعية إلى الحدّ الأدنى لكيلا تؤثر على عبادته أو على عدد (ختمات) القرآن التي قرّر أن يكملها في هذا الشهر والتي قد تصل عند البعض إلى ختمة كل ثلاثة أيام - عملاً بالمأثور- فيؤثّر هذا الانشغال بالذات على أخلاقه وعلاقاته فيبدو عليه التجهّم والعبوس، فهو مع الناس وليس معهم وربما استخدمهم ليكونوا مطيّته لبلوغ غاياته الشخصية من أجر وثواب.


المشهد الثاني:

جمع آخر من الناس يسيرون بهمّة ويتوجّهون بشغف وشوق في ليالي شهر رمضان الكريم إلى هذا المقهى أو ذاك المجمع التجاري يطلبون المتعة والترفيه والأناسة في ليالي شهر رمضان المليئة بالحيوية والنشاط والحركة، ثم يكملون سهرتهم متسمّرين لساعات طويلة أمام الفضائيات التي تقدّم لهم كمّاً هائلاً من برامج ترفيهية يطغى على أكثرها الرقص والغناء والصخب. هذا وأمثاله كذلك لا همّ لهم سوى المتعة وإشباع الرغبات المادّية والجسدية بكل صنوفها فإذا ما أكل استمرّ في الأكل حتى يتخم، وإذا ما تسلّى انهمك حتى يغفل، وإذا ما لعب تلهّى حتى يغرق، وهكذا إلى أن طغت -عند هؤلاء- المادّة على الروح فجاعت (الروح) وبقيت في فقر مدقع وربما ماتت وهو لا يشعر.


مشهدان محلّيان أو مناطقيان يبدو أنهما مختصّان بفترة زمنية معيّنة (شهر رمضان في بعض البلاد الإسلامية والعربية) ولكنهما يعكسان بجلاء مشكلة فقدان التوازن بين الروح والمادّة في واقع الأمة متمثّلاً في شريحتين من الناس. عالَمان ظاهرهما متناقضان، ويبدو للرائي البعيد أن مرتادي العالمَين مختلفان ويفصلهما بون شاسع في الهيئة والملبس والتفكير والتوجّه، وواقع الأمر أنهما مشتركان في حقيقة جوهرية وهي الإفراط في جانب من الحياة على حساب الجانب الآخر. كلتا الشريحتين تبحث عن ضالّة؛ الأولى تسمّيها (أجر، ثواب، جنة .. الخ)، والثانية تظنها (متعة، سعادة، وناسة .. الخ) وكلتاهما تتوق لغاية تريد أن تصل إليها من خلال هذه الممارسات، فهذه شرّقت وتلك غرّبت ولا ندري أي منهما ستحصل على مبتغاها وأين؟ المنفلت في عالم الصخب والفرح المفتعل، أم المتشدّد المسجون في كهف الذات وعالم الأنانية؟ ربما لا تجد أيٌّ منهما مبتغاها لا هنا ولا هناك لأن كلتي الشريحتين فقدت نصفها الآخر الذي به يتمّ كمالها وجمالها لأنّ الطبيعة البشرية قائمة على ثنائية الروح والجسد ولن يكون استواؤها إلاّ إذا وزانت بين نصفيها وأنصفتهما (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا). هذا الإنسان تجاذبته يدا المادة والمعنى فشطرته شطرين، وأفقدته التوازن المطلوب لرقيّه وكماله، فإما متمرّد على القيم، رافض لكلّ ما يمتّ إلى الروح بصلة (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)، وإما خامل خامد بحجة أنّه يسعى لطهارة روحه (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ)، مع أنّه أُريد له أن يكون مزيجاً من الروح والمادة فأبى كلٌّ منهما إلاّ أن يستفرد بجانب وينبذ الآخر فيشقى ويُشقي من حوله.

أصيب إنسان اليوم - على المستوى الفردي - بانفصام تامّ بين بُعديه المادي والمعنوي الذي لا يتمّ كماله إلاّ بهما معاً متساويين ومتكاملين ففقد صفاءه الروحي، وعاش في فوضى فكرية انعكست على سلوكه وعلاقاته؛ وأصيبت العلاقات الإنسانية - على المستوى الدولي - بمثل هذا الانفصام نتيجة لانهيار التوازن بين ما هو مادي وما هو أخلاقي معنوي، وتجلّى هذا في فقدان روح العدالة في التعامل المتبادل بين شعوب العالم، فغُلب على أمر المستضعف تنكيلاً وظلماً، وازداد المستكبر قوّة وبطشاً، وكان المؤمّل أن يسود الودّ والوئام بينهم لو لم يبغِ أحدهما على الآخر. والحلّ بيدّ الأفراد أوّلاً بأن يبدأوا بتجسير الفجوة بين توأمي الروح والنفس لعقد مصالحة بينهما للوصول إلى حالة السلام الداخلي، وثانياً بيد أكبر وسيلتيّ إعلام جماهيريتين: أصحاب المنابر، وأهل الفن من مخرجي أفلام، ومغنيّن، وشعراء، وغيرهم أن يأخذ كلٌّ على عاتقه تغذية الجانب المفقود في روّاده ومريديه ليسهم في إعادة التوازن إلى المجتمع الإنساني.





www.tajdeed.org







رد مع اقتباس مشاركة محذوفة