قلبي على (الحوش) وأيامه، فثقافة (الشقق) و(الفلل) ذات الأسوار الشاهقة والتصاميم الصندوقية باتت هي الرائجة!
تربينا في السودان في ظل بيوت تعمرها الحيشان، وتربى أقراننا السعوديون في بيوت تغازل الشمس والهواء الطبيعي كل يوم.
لم نكن نعاني من الربو والتهابات الصدر والحساسية، ولم تظهر في أجيالنا أمراض الكساح ولين العظام ونقص الكالسيوم!! السبب أننا كنا نستمتع بالشمس المتسللة إلى كل متر مربع في الحيشان والغرف، فيتسلل معها الدفء والنور والعافية لكل قاطني المنزل والسبب، كذلك، أننا كنا نتنفس هواءً نقياً لا تنفثه ماكينات صناعية وأدوات للتكييف تعشعش فيها الباكتيريا و(البلاوي) الزرقاء والصفراء والسوداء وغيرها!!
الآن ثقافة الحوش انزوت، وصار المزاج هو الفلل الصندوقية والشقق القفصية!!
خشي الناس على أبنائهم، الذين يشبهون نباتات الظل، فبنوا البروج التي تقيهم من الشمس وحرارتها، ثم خشوا أن يفطس الأبناء، والآباء معهم، جراء الطقس فملأوا الدار بالمضخات التي تنفث الهواء البارد الذي تنتجه غازات التبريد المختلفة، ثم خشي الناس من عيون الجيران وتطفل المتطفلين فزادوا من تقفيل منازلهم وأضافوا أمتاراً إلى أسوار قلاعهم!
الجميع غطسوا في خصوصياتهم، والكل انكفأ على ذاته وعلى أسرته، فضاع الانفتاح على الناس والجيران، واندحرت الشمس وهي تحاول أن تبث العافية في عظام صغارنا، وتراجع الأكسجين النقي لتمتلئ رئاتنا بالباكتيريا الرطبة رغم أنف الفلاتر بكل أنواعها!!
ثقافة الحيشان ما زالت تجد لها مكاناً رحباً في السودان، لكنها تشهد بدايات غزو في المدن الكبرى.. وتآكلت الحيشان في السعودية لحساب الشقق المغلقة والفلل وخصوصاً في المدن الكبرى.
هل هي إحدى مصائب المدنية والحضارة؟ أم هي أحد إفرازات العصر المنغلق على الذات والمنكفئ على النفس؟!
لا أعرف الإجابة.. لكن تكدس البشر في مساحات محدودة يجعل الناس ينغلقون في أماكن ضيقة، والأماكن الضيقة تتطلب تجاهل الحوش الذي يشكل الفناء الرحب للمنزل، وكل ذلك يؤدي إلى المزيد من الانغلاق والمزيد من التكدس والمزيد من المصائب.
نعم.. قلبي على الحوش وأيامه، فلقد أتاح لجيلنا أن ينمو في صحة وقوة وعافية، وانظروا إلى أبناء البدو، فستجدون أنهم الأكثر صحة والأوفر حيوية مقارنة ب(نباتات الظل) التي ننجبها ونربيها داخل الصناديق والأقفاص!!
قلبي على الحوش.. قلبي على الحوش!!
عبدالباسط شاطرابي
مجلة الجزيرة