عرض مشاركة واحدة
  المشاركة رقم: 19  
قديم 18 / 11 / 2009, 09 : 01 AM
abo aziz
عضـــو مؤسس ثاني
كاتب الموضوع : abo aziz المنتدى : القصص والروايات
تاريخ التسجيل العضوية الدولة المشاركات بمعدل المواضيع الردود معدل التقييم نقاط التقييم قوة التقييم
06 / 08 / 2007 3628 فلسطين 1,121 0.18 يوميا 235 103 abo aziz will become famous soon enough abo aziz will become famous soon enough
abo aziz غير متصل

رد: رواية رجال في الشمس- غسان كنفاني

الطريق
لم يكن الركوب فوق ظهر السيارة الجبارة مزعجاً كثيراً. فرغم أن الشمس كانت تصب جحيمها بلا هواده فوق رأسيهما إلا أن الهواء الذي كان يهب عليهما بسبب سرعة السيارة خفف من حدة الحر.. كان أبو قيس قد صعد مع مروان إلى فوق وجلسا على حافة الخزان متجاورين أما أسعد فقد رست عليه القرعة ليجلس إلى جانب السائق في الفترة الأولى من الرحلة.
قال أسعد محدثاً نفسه:
- " سوف يأتي دور العجوز أخيراً ليستظل هنا.. ولكن لا بأس، على أي حال، فإن الشمس تبقي محتملة الآن... أما عند الظهيرة فسيكون حظ العجوز حسناً .."
قال أبو الخيزران فجأة، بصوت عال ليسمع عبر هدير المحرك:
- هل تتصور؟.. إن هذه الكيلومترات المئة والخمسين أشبهها بيني وبين نفسي بالسراط الذي وعد الله خلقه أن يسيروا عليه قبل أن يجري توزيعهم بين الجنة والنار.. فمن سقط عن السراط ذهب إلى النار، ومن اجتازه وصل إلى الجنة.. أما الملائكة هنا فهم رجال الحدود !
انفجر أبو الخيزران ضاحكاً: كأنه لم يكن هو الذي قال ذلك، ثم أخذ يضرب المقود بكلتا يديه ويهز رأسه..
أتعرف؟ أنني أخاف أن تفطس البضاعة، هناك..
أشار بعنقه إلى حيث يجلس العجوز مروان فوق الخزان ومضى يضحك بعنف ..
قال أسعد بهدوء:
- قل لي يا أبا الخيزران.. ألم تتزوج أبدا؟
- أنا؟
سأل بعجب، واكتسى وجهه الهزيل بالأسى كأنه لم يكن يضحك قبل هنيهة..
ثم قال ببطء:
- لماذا تسأل؟
- لا لشيء معين.. كنت أقول لنفسي أن حياتك رائعة.. لا أحد يشدك من هنا ولا أحد يشدك من هناك.. وتطير أنت منفردا حيث شئت، تطير.. تطير.. تطير..
هز أبو الخيزان رأسه ثم ضيق جفنيه كي يتلافى ضوء الشمس الذي انصب، فجأة، فوق زجاج الواجهة.. كان الضوء ساطعاً بحدة حتى أنه لم يستطع، بادئ الأمر، أن يرى شيئاً.. إلا أنه أحس بألم فظيع يتلولب بين فخذيه، ثم استطاع أن يتبين، بعد لأي، أن ساقيه مربوطتان إلى حمالتين ترفعانهما إلى فوق، وأن عدداً من الرجال يدور حوله.. أغمض عينيه برهة ثم فتحهما، مرة أخرى، على وسعيهما. كان الضوء المستدير الموضوع فوق رأسه يحجب عنه
السقف ويعشي بصره. ولم يستطع أن يتذكر، وهو مقيد هناك على ذلك الشكل المحكم والغريب، أكثر من شيء واحد حدث له منذ برهة، ليس غير.. كان يركض مع عدد من الرجال المسلحين حين تفجرت جهنم أمامه فسقط على وجهه.. هذا كل شي، والآن، الألم الفظيع ما زال يغوص بين فخذيه والضوء المستدير الضخم معلق فوق عينيه وهو يحاول أن يرى إلى الأمور والأشخاص مضيقاً جفنيه قدر ما يستطيع.. وفجأة خطر له خاطر أسود فبدأ يصيح بجنون، ليس يذكر ما الذي قاله حينذالك، ولكنه أحس بيد تطبق فوق فمه بعنف، كانت تلبس قفازا لزجاً.. ووصله الصوت، كأنما عبر قطن:
- كن عاقلا.. كن عاقلا.. إن ذلك على أي حال أفضل من أن تموت !..
ليس يدري هل استطاعوا أن يسمعوه وهو يصيح من بين أسنانه واليد اللزجة مطبقة فوق فمه ؟ أم أن صوته ضاع في حلقه، أنه، على أي حال، ما زال يسمع الصوت نفسه كأن إنسانا آخر كان يصيح في أذنيه:
- لا .. الموت أفضل.
والآن.. مرت عشر سنوات على ذلك المشهد الكريه.. مرت عشر سنوات على اليوم الذي اقتلعوا فيه رجولته منه، ولقد عاش هذا الذل يوما وراء يوم وساعة أثر ساعة، مضغه مع كبريائه، وافتقده كل لحظة من لحظات هذه السنوات العشر ورغم ذلك فإنه لم يعتده قصد، لم يقبله قط.. عشر سنوات طوال وهو يحاول أن يقبل الأمور، ولكن أية أمور؟ أن يعترف ببساطة بأنه قد ضيع رجولته في سبيل الوطن؟ وما النفع؟ لقد ضاعت رجولته وضاع الوطن وتبا لكل شيء في هذا الكون الملعون...
كلا إنه لم يقبل، بعد عشر سنوات أن ينسى مأساته ويعتادهما. بل أنه لم يقبل ذلك حتى حين كان تحت المبضع يحاولون أن يقنعوه بأن فقدان الرجولة أرحم من فقدان الحياة. يا إله الشياطين، إنهم لا يعرفون ذلك قط، لا يعرفون شيئا ثم يتنطحون لتعليم الناس كل الأشياء.. أتراه لم يقبل أم إنه كان عاجزا عن القبول؟ منذ اللحظ ات الأولى كان قد قرر أن لا يقبل، نعم، هذا هو الصحيح بل أنه كان عاجزا عن تصور الأمر بتمامه حتى أنه، بعد وعي، هرب من المستشفى قبل أن يشفى نهائيا .. كأن هروبه كان قادرا على تسوية الأمور من جديد، لقد احتاج إلى وقت طويل حتى يعتاد مجرد الحياة.. ولكن تراه اعتادها؟ ليس بعد.. كلما سئل بشكل عابر:"لماذا لا تتزوج؟ " عاد إليه الإحساس الكريه بألم يغوص بين فخذيه كأنه مازال ملقى تحت الضوء المستدير الساطع وساقاه مرفوعتان إلى فوق.
كان الضوء متوهجاً وساطعاً حتى أن عينيه بدأتا تدمعان، عندها، مد أسعد يده فأنزل حاجبة الشمس المستطيلة ليقع الظل على وجه أبي الخيزران:
- " نعم، إن هذا أفضل.. شكرا.. أتعرف؟ إن إبا قيس رجل محفوظ " أحس أسعد بأن أبا الخيزران يريد تغيير موضوع الزواج الذي أثاره بسؤاله فاستجاب لذلك ببساطة:
- لماذا؟
- لو قدر له أن يذهب مع المهربين لكان وصوله إلى الكويت بمثابة أعجوبة لا أكثر ولا أقل.
كتف أبو الخيزران ذراعيه على المقود واتكأ بصدره فوقهما..
- أنت لا تعرف كيف تجري الأمور هنا.. كلكم لا تعرفون.. اسألني أنا.. اسألني، انني أعرف قصصا يبلغ عددها عدد شعر القط!
- إن الرجل السمين يبدو طيباً.. لقد ملت إليه.
أنزل أبو الخيزران رأسه ومسح عرق جبينه بكمه المتكئ على المقود وقال:
- هه ! إن الرجل السمين لا يذهب معلم عبر الحدود وهو لا يعرف ماذا يحدث..
- ماذا يحدث ؟
- لي ابن عم يدعى حسنين، هرب مرة عبر الحدود، وبعد مسير أكثر من عشر ساعات حل، الظلام. عندما أشار المهرب إلى مجموعة من الأضواء البعيدة وقال: تلك هي الكويت.. تصلونها بعد مسيرة نصف ساعة.. أتدري ما الذي حدث؟ لم تكن تلك الكويت .. كانت قرية عراقية نائية ! أستطيع أن أروي لك آلافا من القصص المشابهة. قصص رجال تحولوا إلى كلاب وهم يبحثون عن نقطة ماء واحدة يغسلون بها ألسنتهم المشققة.. وماذا تحسب أنه حدث حين شاهدوا خيام البدو؟ لقد اشتروا جرعة الماء، بكل ما يملكون من نقود أو خواتم زواج أو ساعات... يقولون أن حاتم كان بدوياً.. ولكنني أعتقد أنها مجرد كذبة،.. ذلك زمن راح يا أبا السعد.. راح.. ولكنكم لا تدركون ذلك تحسبون أن الرجل السمين بوسعه أن يعمل كل شيء.. أعرف رجلا عاش في الصحراء وحيداً مدة أربعة أيام، وحين التقطته سيارة على طريق الجهرة كان على وشك أن يلفظ آخر أنفاسه.. أتدري ماذا فعل ؟ كان يريد شيئا واحدا من كل هذه الحياة.. كان يريد أن يعود إلى البصرة فور أن يسترد صحته، ويعود إليها عبر الصحراء أيضاً إذا لزم الأمر.. أتعرف لماذا ؟ قال لي أنه يريد العودة إلى هناك كي يطبق بكفيه حول عنق الرجل السمين ويخنقه، ثم لتقم القيامة.. كان قد بدأ رحلته مع صديقين من أصدقاء شبابه، من غزة، عبر إسرائيل، عبر الأردن، عبر العراق .. ثم تركهم المهرب في الصحراء، وهم لما يعبروا حدود
الكويت.. لقد دفن صديقيه بتلك الأراضي المجهولة وحمل معه هويتيهما على أمل أن يصل إلى الكويت، فيرسلهما إلى أهليهما. لم يكن يريد لأحد أن ينصحه.. كان يقول أنه لا يريد أن ينسى ولا يريد أن يغفر.. وبعد مرور أقل من شهر عاد أدراجه إلى العراق، ولكنهم ألقوا القبض عليه.. وهو الآن يمضي سنته الثمانية في سجن حقير.. ماذا تراك تحسب؟ تأتون إلينا من المدارس مثل الأطفال وتحسبون أن الحياة هينة أتحسب أن أبا قيس لم يكن يقامر بحياته.. وسوف يكون هو الخاسر ! أنا متأكد من ذلك تأكدي من الشمس الملعونة هذه !ٍ غدا حين تصل إلى الكويت ستتذكرني بالخير وتقول : كان أبو الخيزران يحكي الصحيح، ثم تحمد ربك ألف مرة لأنني أنقذتك من أظافر الرجل السمين.. هل رأيت في عمرك كله هيكلا عظميا ملقى فوق الرمل؟
- ماذا قلت؟
- سألتك : هل رأيت في عمرك كله هيكلا عظميا ملقى فوق الرمل؟
- كلا...
دور أبو الخيزران مقود سيارته بعنف ليتجاوز حفره واسعة في الرمل، ثم بدأت السيارة تخب. وترتجف فوق طريق تشبه الدرج المنبسط، وأحس أسعد بأن أمعاءه على وشك أن تقفز من بين أسنانه المصطكة .







رد مع اقتباس مشاركة محذوفة