عرض مشاركة واحدة
  المشاركة رقم: 25  
قديم 18 / 11 / 2009, 24 : 01 AM
abo aziz
عضـــو مؤسس ثاني
كاتب الموضوع : abo aziz المنتدى : القصص والروايات
تاريخ التسجيل العضوية الدولة المشاركات بمعدل المواضيع الردود معدل التقييم نقاط التقييم قوة التقييم
06 / 08 / 2007 3628 فلسطين 1,121 0.18 يوميا 235 103 abo aziz will become famous soon enough abo aziz will become famous soon enough
abo aziz غير متصل

رد: رواية رجال في الشمس- غسان كنفاني

القبر
قاد أبو الخيزران سيارته الكبيرة حين هبط الليل متجهاً إلى خارج المدينة النائمة.. كانت الأضواء الشاحبة ترتعش على طول الطريق، وكان يعرف أن هذه الأعمدة التي تنسحب أمام شباك سيارته سوف تنتهي بعد قليل حينما يغرق في البعد عن المدينة.. وسوف يعم الظلام.. فالليلة لا قمر فيها، وأطراف الصحراء ستكون صامتة كالموت.
انحرف بسيارته عن الطريق الأسفلت ومضى يتدرج في طريق رملي إلى داخل الصحراء. لقد قر قراره منذ الظهيرة على أن يدفنهم، واحداً واحداً، في ثلاثة قبور... أما الآن فإنه يحس بالتعب يتآكله فكأن ذراعيه قد حقنتا بمخدر.. لا طاقة له على العمل.. ولن يكون بوسعه أن يحمل الرضا ساعات طويلة ليحضر ثلاثة قبور.. قبل أن يتجه إلى سيارته ويخرجها من كاراج الحاج رضا. قال في ذات نفسه أنه لن يدفنهم، بل سيلقي بالأجساد الثلاتة في الصحراء ويكر عائداً إلى بيته.. الآن، لم تعجبه الفكرة، لا يروقه أن تذوب أجساد الرفاق في الصحراء ثم تكون نهباً للجوارح والحيوانات.. ثم لا يبقي منها بعد أيام إلا هياكل بيضاء ملقاة فوق الرمل.
درجت السيارة بصوت هزيل فوق الطريق الرملي، ومضى هو يفكر.. لم يكن يفكر بالمعنى الصحيح، كانت أشرطة من مشاهد مقطعة تمر في جبينه بلا أي توقف أو ترابط أو تفسير.. وكان يشعر بإرهاق مر يتسرب في عظامه كقوافل مستقيمة من النمل.
هبت نسمة ريح فحملت إلى أنفه رائحة نتنة.. قال في ذات نفسه :"هنا تكوم البلدية القمامة " ثم فكر: " لو ألقيت الأجساد هنا لاكتشفت في الصباح،
ولدفنت بإشراف الحكومة " دور مقود سيارته وتتبع آثار عجلات عديدة حفرت طريقها قبله في الرمل ثم أطفأ فانوسي سيارته الكبيرين وسار متمهلاً على ضوء الفانوسين الصغيرين، وحين لاحت أمامه أكوام القمامة سوداء عالية أطفأ الفانوسين الصغيرين.. كانت الرائحة النتنة قد ملأت الجو حواليه ولكنه ما لبث أن اعتادها.. ثم أوقف سيارته وهبط.
وقف أبو الخيزران إلى جانب سيارته لحيظات ليتأكد من أن أحداً لا يشاهده ثم صعد ظهر الخزان: كان بارداً رطباً.. دور القفل المضلع ببطء، ثم شد القرص الحديدي إلى فوق فقرقع بصوت متقطع.. اعتمد ذراعيه وانزلق إلى الداخل بخفة.. كانت الجثة الأولى باردة صلبة، ألقى بها فوق كتفيه، أخرج الرأس أولاً من الفوهة ثم رفع الجثة من الساقين وقذفها إلى فوق وسمح صوتها الكثيف يتدحرج فوق حافة الخزان ثم صوت ارتطامها المخنوق على الرمل، لقد لاقى صعوبة جمة في فك يدي الجثة الأخرى عن العارضة الحديدية، ثم سحبها من رجليها إلى الفوهة وقذفها من فوق كتفيه.. مستقيمة متشجنة وسمع صوت ارتطامها بالأرض.. أما الجثة الثالثة فقد كانت أسهل من أختيها..
قفز إلى الخارج وأغلق الفوهة ببطء، ثم هبط السلم إلى الأرض، كان الظلام كثيفاً مطبقاً وأحس بالارتياح لأن ذلك سوف يوفر عليه رؤية الوجوه ، جر الجثث - واحدة واحدة - من أقدامها وألقاها على رأس الطريق، حيث تقف سيارات البلدية عادة لإلقاء قمامتها كي تتيسر فرصة رؤيتها لأول سائق قادم في الصباح الباكر.
صعد إلى مقعده ودور المحرك ثم كر عائدا إلى الوراء ببطء محاولاً قدر الإمكان أن يخلط آثار عجلات سيارته بالآثار الأخرى، كان قد اعتزم أن يعود إلى الشارع الرئيسي بذلك الشكل الخلفي حتى يشوش الأثر تماماً.. ولكنه ما لبث أن تنبه إلى أمر ما بعد أن قطع شوطاً فأطفاً محرك سيارته من جديد ثم وعاد يسير إلى حيث ترك الجثث فأخرج النقود من جيوبها؟ وانتزع ساعة مروان وعاد أدراجه إلى السيارة ماشياً على حافتي حذائه.
حين وصل إلى باب السيارة ورفع ساقاً إلى فوق تفجرت فكرة مفاجئة في رأسه.. بقي واقفاً متشنجاً في مكانه محاولاً أن يفعل شيئاً، أو يقول شيئاً.. فكر أن يصيح إلا أنه ما لبث أن أحس بغباء الفكرة، حاول أن يكمل صعوده إلى السيارة إلا أنه. لم يشعر بالقوة الكافية ليفعل.. لقد شعر بأن رأسه على وشك أن تنفجر، وصعد كل التعب الذي كان يحسه فجأة، إلى رأسه وأخذ يطن فيه حتى أنه احتواه بين كفيه وبدأ يشد شعره ليزيح الفكرة.. ولكنها كانت ما تزال هناك.. كبيرة داوية ضخمة لا تتزعزع ولا تتوارى ، التفت إلى الوراء حيث ألقى بالجثث، إلا أنه لم ير شيئاً، ولم تجد النظرة تلك إلا بأن أوقدت الفكرة ضراماً فبدأت تشتعل في رأسه.. وفجأة لم يعد بوسعه أن يكبحها داخل رأسه أكثر فأسقط يديه إلى جنبيه وحدق في العتمة وسع حدقتيه.
انزلقت الفكرة من رأسه ثم تدحرجت على لسانه:
- " لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟... "
دار حول نفسه دورة ولكنه خشي أن يقع فصعد الدرجة إلى مقعده وأسند رأسه فوق المقود:
- لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟ لماذا وفجأة بدأت الصحراء كلها تردد الصدى:
- لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟
انتهت

على الهامش :
رواية رجال في الشمس كان لها صداها الواسع على صعيد القراء , لذى احببت أن توثق هنا في صفحات ملتقى النخبة لمن أراد قراءتها .
لكم مني جزيل الاحترام والمحبة والتقدير







رد مع اقتباس مشاركة محذوفة