عوض الجبلي- فيصل الشهري :
https://www.al-jazirah.com/2022/20220114/cm25.htm
(1)
لم تستقبله الابتسامات، لم تقابل بكاءه الزغاريد، وحده الذي لم تكن دموعه إيذانًا بالفرح، كان البكاء أول ما عرفه واستقبله في الحياة، فلا وجه تهلل بمقدمه، ولا مباركة تحررت. منذ البداية أدارت الحياة ظهرها له، ففي الوقت الذي كانت أمه تصارع المخاض، كان أبوه في الغرفة المجاورة يحتضر، والنحيب يرد على بكائه واخزًا أذنه، الأم بصوتٍ متهدج، ولد أم بنت؟، القَابِلَة ترفعه وهي تتمتم يا لسوء هذا الطالع، تنهرها الأم: «اذكري الله، الإنسان يولد بدوده».
هكذا افتتح «عوض» حياته، تناول الارتعاشة الأولى من شفة أمه على هيئة قُبلة، هل كانت الحياة صريحة معه من الوهلة الأولى؟ اسمه لم يُختَر له إلا بعد أسبوع من ولادته، نسيه الجميع أو بالأصح حاول الجميع تناسيه، فأي مولودٍ هذا الذي يحمل الموت في أنفاسه.
الأم تندب زوجها، تفتش عن مناقبه لتعددها، ترحل إلى ذاكرتها، تغوص، تنبش، لم يترك لها شيئًا تسد به هذه الآذان المتحلقة حولها، تتجاهلهم وتطيل النظر في مولودها فيلهج لسانها مرددةً: أنت العوض.. أنت العوض.
انتشل عوض أمه من أجواء الحزن فأطبق على وقتها، واستولى على قلبها، وأصبح وجهتها ووجهها، وحتى لا يضيع تعداد عمره وتتأكد من بلوغه سن الختان، علقت حبلاً يتدلى من سقف الغرفة وحبكت في استطالته عقده، لتتعاهده بعد ذلك كل عام بإضافة عقده.
لم تمهلها الأيام فسحةً من الابتسامة حتى أدركت أنها أمام طفلٍ مختلف، نتوءٌ بارزٌ في الظهر، وانخسافٌ مخيفٌ في الصدر، وقعت في دوامة من الكآبة، تملكها حزنٌ عظيمٌ، وصرخت الدعوات منها: «يا رب أريده أن يحملني لا أن يحمل هذا الكيس بظهره».
الشكوك حول جسد الطفل تساور عقلها، وتثقل روحها بخوف عظيم، فبعد الحدبة اكتشفت العين اليمنى المنطفئة، ولولت ردحًا من الزمن: جسدٌ تملؤه العيوب، جسدٌ تبصق الحياة في وجهه مذ صرخته الأولى. كل هذه التشوهات يا الله؟، لماذا طفلي أنا؟، أرحام القرية مليئة بالأطفال؟ أريده خلاصًا لي يا ربي؟ تصمت هنيهة إلا من النشيج، ثم تجمع قواها وتمسح دموعها بطرف طرحتها، تتعوذ من الشيطان وتستغفر ربها، تتوضأ وتباشر القبلة لتصلي في وجه حزنها، وتُفزِع بدعواتها الشقاء الذي يتسلق ظهر ابنها.
(2)
لم يكن «عوض» هو الاسم الوحيد الذي فازت به هذه التشوهات المحمولة على قدمين نحيلتين كمسمارين زهد عنهما اللحم، فأطفال القرية الذي كان يحرص على اللعب معهم والتقرب منهم، كانوا يسمونه «كيس الدمن». وفي كل مرة يجزم بأنه لن يرافقهم ثانيةً، فتربت أمه عليه نافضةً عنه الضجر:
«الإنسان هو من يمنح الاسم القيمة، اصنع لاسمك معنى كما تحب».
أما الرجال فانتشر بينهم باسم «الأحدب»، وكلما هتف أحدهم له بهذا الاسم لم يجبه، محاولاً إجبارهم على الاعتراف باسمه الحقيقي، ومانعًا لسانه من الانزلاق.
في حين أن نِسوة القرية اللاتي كن يهددن صغارهن بخِلقته: «اسكتوا ولا خليت بر معيضة بظهره الكبير ياكلكم»، «اغمضوا أعينكم وناموا وإلا جاءكم بر معيضة معلقًا من قدميه في السقف»، بتهديداتهم صنعوا منه كائنًا مخيفًا ومنبوذًا، وفوق هذا نسوا أن له أباً واسماً وأسموه «بر معيضة».
وحده هذا الاسم لم يكن يشعل غيض عوض فأمه بالنسبة له أجل ما يمكن أن ينتسب له، فما إن ينظر في وجهها الوضاء حتى يتحول الضيق فرجًا، والعسر يسرا، كانت عصاه في وجه كل نائبة، يتوكأ عليها عندما ينوء بحمله، ويثرثر بشكواه إليها فتنتصر له كلماتها وتعيد بناء دواخله.
أورث له أبوه جملةً من الشتائم، اتخذها أقرانه ذخيرةً يصوّبونها نحو كبريائه كلما همت نفسه بالإعلان عن وجودها، فعلى مسرح الحياة بالقرية المتسلقة الجبل كانت حادثة وفاة بن عويضة تعيد نفسها فوق كل صفاء، في بادئ الأمر لم يصدق عوض ما يرشقُه به الصبية إرثًا عن أبيه، ولكن أمه وافقت ما يروى وقالت للأسف هذا ما حدث:
«في السنة الثانية من زواجنا عاد بن عويضة للجبل بعد أن قصد مدينةً يُقال لها جدة تتوسط مكة والبحر، عاد والجدري بفقاعاته القبيحة تطفح من جلده، اجتمع الشيخ بأهل الرأي وانتهت بهم المشورة إلى عزله، فأبلغوه بالأمر وامتثل دون مقاومة، صعد إلى الغرفة التي خُصصت للعزل في رأس الجبل، فكلما فجعت القرية بمرضٍ عضال يقتحم جسد أحد أفرادها كان عليه الصعود للغرفة وانتظار الموت بصمت، ومع هذا لا يسلمونه للجوع والعطش بل يؤمنون له كفايته من الطعام والشراب بشكلٍ دوري، وعندما صعد أحد الرجال ليوصل لابن عويضة الزاد، لم يجد ردًا على سلامه فتجرأ واقترب من باب الغرفة الموارب ليجده مسجى على الأرض بعدما أسلم روحه لخالقها، انتشر الخبر بين القوم وعقد المجلس تحت السدرة، وانتدب أبوك ليحضر الكفن من سوق السبت، فاحتزم بجنبيته ونزل من حينه يدفع الجبل خلفه، وكان مقررًا أن يصلى الظهر على الميت، فالجثة لا تحتمل أكثر من هذا التأخير فالله وحده أعلم منذ كم يوم وافته المنية، لكن أباك تأخر فجاءت صلاة الظهر والعصر أيضًا وهو ما يزال غائبًا، فاضطر الرجال لتكفينه برزمة من العلف، ودفنوه في مقبرة المعزولين برأس الجبل. نزلوا والغضب ينضح من وجيههم، أرسلوا في طلب أبيك ولم يكن قد رجع، لم يدخل البيت إلا قُبيل الفجر، وبعد الفجر كان أحد الأعيان بالباب يطلبه الحضور حالاً إلى السدرة حيث الشيخ ورجال القرية بالانتظار، قام أبوك وتعجل إليهم بالوصول، وجدهم قد استشاطوا غيضًا وجلهم لم تذق عينيه النوم، تأمل نظراتهم وتقاسيم وجوههم، فسابقهم قبل أن يتكلموا وقبل رؤوسهم أجمعين واعترف بخطئه وساق لهم ما عرفته ذاكرة الرجال من جُمل الاعتذار، طلب منه الشيخ أن يقول له ما السبب الذي أخره عن المهمة التي كُلف بها، لم يجب والتزم الصمت، طأطأ رأسه وسافر في صمته، مكثوا يتداولون في شأنه وهو لا يحرر شفتيه بكلمة، كان الرأي الأول أن ينفى من القرية، والرأي الثاني أن يحج عن بن عويضة، أما الرأي الأول فرفض بسببي لأنني زوجته ومضطرة للرحيل معه، وأما الثاني فلأن بن عويضة قد حج مرتين وهو في جدة، ومن ثم دار الرأي على التنكيل بأبيك واتفقوا على أن يُبطح وتوضع في فمه ثلاث بعرات ويمشي من فوقه عشرة رجال بأحذيتهم».
- لماذا لم يقل لهم ما الذي أخره؟ أين كان أبي ذلك الوقت كله؟!
- اسكت يا ولدي، أبوك مجنون زير، ما أن يُدق الزير وتستوي الصفوف في عرضةٍ أو خطوة حتى ينضم لها وينسى نفسه، صادف نزوله السوق يوم ختان خمسة من أبناء آل مشول.
- آآه .. سامحك الله يا أبي.