16 / 01 / 2022, 15 : 10 AM
|
|
مؤسس الموقع
|
كاتب الموضوع
:
SALMAN
المنتدى :
سواليف أدبــاء |
تاريخ التسجيل |
العضوية |
الدولة |
المشاركات |
بمعدل |
المواضيع |
الردود |
معدل التقييم |
نقاط التقييم |
قوة التقييم |
14 / 03 / 2005 |
1 |
المكتبة |
7,618 |
1.05 يوميا |
|
|
393 |
10 |
|
|
|
|
رد: عوض الجبلي
(3)
ما إن سمع عوض بالمدرسة حتى تراءت له الأحلام، وأخذ يرى في نفسه طموحًا لا يرضيه إلا مقاعد الدراسة، فمن بعد أن رفض الشيخ وجلساؤه أن يلحقوه بالفتيان الذين سيختتنون، وهو عازمٌ على صناعة نفسه، لا ينسى عندما اقتحم عليهم مجلسهم تحت السدرة مستنكرًا استبعاده من بين أقرانه، أسكَت الشيخ الرجال من حوله وظل يستمع لعوض وهو يتوثب يبنهم ويلوح بحبل العمر ذو العشر عقد أمامهم:
- اختنوني معهم.
أخرج الخنجر الذي يحوط خاصرته، وكرر مقولته:
- اختنوني معهم، وإلا ختنت نفسي الآن أمامكم.
قام إليه الشيخ ومسح على رأسه، معجبًا بشجاعته:
- يا ابني، أترى هؤلاء الرجال، مكثوا أيامًا يتداولون أمرك، وأجمعوا أن بنيتك لا تحتمل، رفضوا حبًا فيك وخوفًا عليك.
أزاح يد الشيخ عن رأسه بهدوء وحدجهم ببصره، واحدًا واحدًا واستدار ورجله تركل كل ما تقع عليه وفمه مليء بالكلام.
منذ ذلك اليوم وهو يبحث عما يحقق ذاته، ويعلن وجوده بينهم، وجاءت المدرسة ورأى فيها الخلاص الذي يحلم به، أبدت أمه رفضًا واسعًا لفكرة المدرسة، وما انفك يحاول إقناعها، وفي كل محاولة تعيد إليه تخوفها من عدم تحمله لمشاق الطريق ومفاجآته من الجبل إلى القرية بجانب الوادي:
- جسمك لا يقوى، وقلبي أيضًا لا يحتمل، فلا تحملني وتحمل نفسك ما لا طاقة لنا به.
فكر مليًا، تمهل مع كل الحلول التي تجوب رأسه، وفاض به الأمر إلى استشارة جارتهم، والتي أشارت عليه بأن تنزل معه للوادي ويستقران هناك، احتفل بالفكرة، ومط فمه في ابتسامة إلى أذنيه. مكث بقية اليوم يحبر الكلام في صدره، ويُعلِب الأجوبة في عقله، مخمنًا كل الأسئلة التي قد تتفوه بها أمه، وبعدما استرسل الظلام، وملأ جوانب الجبل، وبدأ فانوس غرفتهم الحجرية يرتعش بصفرته مزيحًا الظلام، أمي:
- وجدت حلاً للمدرسة، نودع الجبل ونسكن الوادي معًا.
- كيف؟ من أين لنا بيت يضمنا؟ غنمنا؟ كيف سنعيش؟
تاهَ في صمته قليلاً، واستعاد عزيمته على إقناعها:
- حلمي أن أتعلم، هو حبل النجاة الوحيد لوجودي، أرجوك.
تبادلا الصمت، كل شيء سُلِم للصمت والسكينة، الظلال وحدها تتراقص على جدران الغرفة، ونطقت بعد أن كاد يغشاه النعاس:
- ولد الشيخ، وولد الإمام، وأولاد دخنة، كلهم لم يتمكنوا من إكمال سنة واحدة في المدرسة وأنت تتكلم عن ست سنوات.
ارتاح عوض لرد أمه، وزف البشرى لنفسه: انتقلت العلة لعدد السنوات إذن، هذا جيد، ثم تمهل يبحث عن إجابة تليق بامرأة تناوشتها الأقدار ونهشتها الشيخوخة، ووقف بين يديها وتحدث بثقة وحزم:
- ولكني ابن معيضة.
انفرجت شفتي الأم قليلاً، معلنةً عن ابتسامة زهو ورضا، واطمأن عوض لإجابته وسارت تباشير الفرح في روحه، لكن الأم لم تتركه للفرح، وعاجلته:
- لكن....
رد سريعًا: وماذا بعد يا أمي؟
- أين ستسكن، ومن أين لك الطعام؟
- ألم أقل لك إنني ابن معيضة.
قالها هذه المرة وهو يتأمل وجهها الذي رسم عليه الرد عينين مضغوطتين تحت خدين متكورين من إثر انفرادة شفاهٍ فرِحة.
(4)
أرسلت الأم من يستطلع لها أمر المدرسة ومتطلباتها، فعاد لها الرسول بأن أمامها شهرًا لتعاود استقبال الطلاب، والمطلوب ورقة من الشيخ تثبت اسمه ونسبه وعمره، صعقت الأم من المطلوب:
- بالله عليك كيف سيكتبها الشيخ، لا أحد في هذا الجبل يجيد الكتابة.
- لم أغفل هذا، لذا ذهبت لابن شيخ آل مشول وكتبها لي وها هي، وكل ما علينا الآن أن يختم عليها الشيخ، والانتظار لمدة شهر.
أخذ عوض الورقة وانطلق بها للشيخ في مجلسه تحت السدرة وطلبه أن يختمها، تلكأ قليلاً وانحنى كل اثنين من جلسائه على بعضهم يتندرون ويتهكمون بصوتٍ تعدى الهمس للإسماع، لم يمنحهم ردًا وتركهم لسدرتهم. بدأت أيام الشهر بالتساقط، اختلطت مشاعر عوض ما بين طامحٍ في إنشاء قلعةٍ لذاته بدلاً من هذه القشور، وما بين الخوف من المجهول وهذه المغامرة وما تخبئه من مخاطر، اعتصر الفتيان الذين لهم تجربة - فاشلة بالطبع - في المدرسة وجمع المعلومات من الأفواه دون تحقق.
اقتربت نقطة الحلم، يومان فقط ويتعلم القراءة، يومان فقط ويشق طريقه ليصبح الوحيد في هذا الجبل يجيد القراءة والكتابة. أقنعت أمه أحد الرجال بإيصاله للمدرسة، متعذرة بأنه عشر سنوات مذ بكائه الأول لم يغادر هذا الجبل.
وصل عوض المدرسة قبل البدء بيوم واحد، ونام ليلته عند باب المدرسة، في الصباح وجد نفسه بورقته في حوش كبير تتوزع فيه ثلاث غرف حجرية، ومجموعة متناثرة من أشجار السدر، شعر بقبضة قاسية على يده: «أوووه طالب مستجد، ودي الأوراق للمدير» وأشار بيده نحو أكبر الغرف. استلم المدير الورقة منه، انقلب وجهه عن الترحاب وتعاطف النظرة الأولى، «لا الوزارة قادرة تزودنا بمعلمين، ولا إحنا قادرين نفتح فصل»، عوض مغروسًا في منتصف الغرفة والنقاش حول مآله مشتعل، حتى انتهى بهم الأمر إلى قبوله، وكونه الطالب الوحيد فلا حاجة لفصل مستقل وإنما يلحق بالصف الثاني وبعدما ينتهي المعلم من الشرح، يبدأ بالشرح له منهج الصف الأول الابتدائي.
لم تكن أشجار السدر بظلالها الممتدة إلا الفصول التي صافحت تحتها يدي عوض القلم والكراس، وخط اسمه في ظلها، أما الثلاث غرف، فكانت الأولى الإدارة والثانية غرفة المعلمين والثالثة غرفة نوم ومعيشة للمعلمين، نشأت مشاعر عطف من جهة المعلمين ومشاعر احترام وإعجاب من جانب عوض، هذه المشاعر أفضت بأن سُمِح لعوض بأن ينام في المدرسة، وبفضل هذا القرب من المعلمين توسعت معرفته بالإنصات لأحاديثهم الليلية، وعاش مع أناسٍ من دول بعيدة لا يعرف عنها شيئًا، الأستاذ معتز والأستاذ بابكر من السودان، والأستاذ أيمن والأستاذ جمال من مصر، والأستاذ صلاح والأستاذ عصام من الأردن، ومدير المدرسة من سورية.
وسط هذا المزيج من الثقافات والعادات، وجد ذاته تتشكل على مهل. وبفضل الحماسة والدافعية للتعلم التي قدم بها للمدرسة كان سريع الاستجابة حاضر البديهة على الدوام، فعاش أيام الدراسة في محبة وإقبال، لا يصعد للجبل إلا في إجازة ما بين الفصلين والإجازة الصيفية، تذوقت روحه السعادة ولم يتعكر صفوه إلا عندما بلغ الصف الرابع، جاء مندوب المركز الصحي وفحصه، وجد أنه لم يختتن بعد، انقلب حاله وتكدر عيشه، فخَفَتَ فهمه وقصر استيعابه. وحتى لا تفقد المدرسة طالبًا بنباهة عوض تطوع الأستاذ عوض بمهمة ختانه، ومع الفجر أردفه خلفه على ظهر الدباب وانحدر به نحو المدينة وفي المركز الصحي أجرى دكتور المركز الختان لعوض بإشراف وحرص من معلمه. كان يتوقع الأستاذ معتز من طالبه أن يصرخ ويبكي ولكنه كان هادئًا متماسكًا وكأن الذي يختتن شخصٌ آخر.
ركضت السنوات الست، وفي صيف 1970م تسلق عوض الجبل متوجًا بشهادة الابتدائي، فاحتفل به أهل الجبل أجمعين، ذُبِحت الخراف، دُق الزير، أطلق الشيخ من بندقيته ست طلقات، وصدح اسمه ملحقًا بأبيه لأول مرة في الجبل «عوض بن معيض»، ومن يومها وهو أحد الرجال الذين يكتبون مصير الجبل.
** **
- فيصل الشهري
توقيع : SALMAN |
إذا خسرناك عضو فلا تجعلنا نخسرك زائر
الإرادة بركان لا تنبت على فوهته أعشاب التردد
حيــــــــــــــــــــــــــــــاكم الله في حسابي على تويتر :
SALMANR2012@ |
|