نجوى هاشم
تمت ق
جريدة الرياض | الأم.. وجه الكون
كانت امرأة تضرب ابنها كل نهار يوم جديد أمام الناس.. وكان الابن لا تنزل له دموع.. ولا يتلفظ بشيء على أمه.. ولا يدافع عن نفسه.. بل يتركها تضربه وهو مستسلم لها.. وبعد فترة وفي يوم من الأيام ضربته أمه كعادتها فأجهش بالبكاء.. وبعد أن انتهت أمه من ضربه وذهبت أسرع إليه الناس وقالوا له.. ما الذي أبكاك اليوم.. وأنت لم تبك طوال الأيام الماضية وهي تضربك نفس الضرب؟
قال الابن: شعرت بأن قوة أمي قد ضعفت..!!
قرأت القصة أو الحكاية فأوجعتني ألماً كما توجع ذلك الابن البار حزناً على أمه عندما ضربته في المرة الأخيرة.. رغم أنه لم يشتك ولم يهرب من ضربها ولم يعترض بل يستسلم طواعية لها كلما ضربته لأنه يعرف من هي الأم.. ولكنه في المرة الأخيرة بكى وكان ذلك البكاء ملفتاً لمن اعتادوا أن يروه يُضرب من أمه ولا يعترض.. فما الذي تغير هذه المرة؟
هو الوحيد الذي يعرف ما الذي تغير وما الذي اختلف.. هو الوحيد الذي يقرأ أمه ويفهمها ويعرف تغيراتها.. هو الشخص الوحيد في العالم الذي يعرف هذه المرأة.. هو جزء منها يفيض معرفة بدواخلها ويمُسك بشفافية إحساسها ويتداخل معه لأنه الجزء الظاهر منه.. ولذلك بكى لأنه عرف أنّ أمه التي ضربته اليوم ليست أمه التي ضربته قبل ذلك.. توجع لأن أمه لم تضربه بالقوة المعتادة لقد بدأت تضعف حتى وإن حاولت أن تبرهن له أنهالا تزال كما هي لم تتغير.. بدأ التعب يغزوها.. وإن أظهرت أنها لاتزال كما هي قوية وقادرة على ضربه أمام الناس..!!
تضعف الأم وتتهاوى قوتها.. فينهار هذا الابن البار لأنه أحس أن والدته مريضة أو داهمها الضعف الذي لم يعتده.. وهو الذي كان لايتأوه من الضرب لأنه يحسن إلى أمه بتحمله.. يصمت لأنه عليه أن يرضخ لها.. يتودد لها طاعة ويسعد ببرّها من خلال تحمله الضرب صامتاً وراضياً وحزنه على ما تغير منها أو فيها..!!
هذه الحكاية تختلف عن حكايات هذا الزمن وما يمكن أن تضيفه ملامحه ومستجداته إلى وجه الحكاية الآخر.. فمن ضمن حكايات هذا الزمان.. تطاول بعض الأبناء على أمهاتهم وآبائهم من خلال الاحتجاج على الضرب.. وبالذات في الأجيال الجديدة.. حيث يعترض الابن أو الابنة على الوالدين وبقوة ويمتنعان عن تلقي أي عقوبة بدنية على اعتبار أن ذلك تعد على حقوقهم وأنه ليس من حق الوالدين ضربهما حتى وإن أحضروهما على وجه الأرض.. الشيء الآخر أن بعض الآبناء يعترض على مبدأ الضرب لأنه من زمن منقرض وعندما تقول الأم أو الأب احنا ضربونا أهالينا.. يقول طفل لأمه وهي تحكي له:وإنتِ كيف سكت على ضربهم المفروض تدافعي عن نفسك وتمنعيهم لأن الضرب ممنوع.. وعندما سألته: من الذي منع الضرب؟ قال الولد: الحكومة المدرسة ممنوع يضربنا المدرس لأنه يفصل من عمله وفي البيت لو ضربتيني صاحبي يقول: أشتكي في الشرطة.. أماالمراهقون فيقول أحدهم لأمه:حقوق الإنسان ما ترضى بالضرب وأمريكا لو أم ضربت ولدها ياخذوه منها.. تناقشني صديقتي في هذا التحول لدى الأبناء في عدم تحمل أي ردة فعل من الآباء والاعتراض على العقاب البدني باعتباره عملا متخلفا وبائسا يعكس التحول في فهم العلاقة بين الوالدين والأبناء.. ولا أقصد من ذلك أن يضرب كل أب وامه ابنه.. أو أمجّد ما قامت به الأم بطلة الحكاية وهي تضرب ابنها ولكن قد تتوتر أم وتخبط ولدها على كتفه أو ابنتها لأي سبب أو الأب أيضاً قد يضرب الولد إن أخطأ ضرباً غير مبرح كما ضرب هو في طفولته ولكن الأبناء يعترضون إما علناً أو يرفضونه بينهم ويشكلون جبهة رفض.. وهم يجهلون مسارات الرضا والإحسان إلى الوالدين ومن ضمنها عدم الاعتراض عليهما أو تأويل ما تقوم به الأم في لحظات الغضب.. يجهل الابن أن أمه اعطت الكثير وإن غضبت فما المشكلة في ذلك.. عليك أن تحتملها بمحبة وهدوء لتحصد برّها وتستمتع بوجودها في حياتك.. بدون وجه أمك لاوجود للحياة.. وبدون تنفسك هواء حياتها ستظل أسوار قلبك معلقة غير ثابتة.. وبدون تلك النطرة الآسرة من عيني امك لن تشعر بالامان ولن تغرق في السلام الداخلي.. الطمأنينة هي حضن أمهاتنا.. والحب الحقيقي الذي لاينتهي ولايطلب مقابلا هو حب الأم لابنائها.. وأبواب الجنة مفتوحة مادامت أمهاتنا على قيد الحياة.. وسيل الدعاء الممتد على المدى المفتوح هو دعاء أمهاتنا..!
اللهم احفظ أمهاتنا ومتعنا بوجودهن.. وامنحنا وأرزقنا برّهن واعنّا على طاعتهن والإحسان إليهن والتودد وكسب رضاهن.. ولاتحرمنا منهن وعافهن واغفر لهن يا رب..!