تمت ق
جريدة الرياض | أسرى الافتراض!
نجوى هاشم
هناك نوع من التوليف في الحياة.. ما بين الحلم الذي يغرد بك خارج السرب.. وما بين الواقع الذي دائماً ما تكون مطالبه أمراً حتمياً عليك أن تخضع لها من منطلق أن العيش داخل الحياة وليس خارجها..!
منذ فترة قد تصل إلى العامين شعرت أن رنين الهاتف الجوال يزعجني.. فغيرت النغمة.. ولكن هذاالإحساس بالتوتر تواصل معي.. فكلما رنّ الجوال ازددت اقتناعاً بأنني منزعجة.. وغير قادرة على تحمّل الصوت.. فوضعته على الصامت منذ عامين أو يزيد.. في مسكني وخارجه.. وحتى في السفر القريب والبعيد.. لا أحب أن أسمع صوت رنين جوال.. أشعر أنه يسرقني.. يسرق لحظات صمتي واستكانتي.. يستلب خصوصيتي.. وانسجامي مع كل ما يخصني، مع الأهل والصديقات، ومع نفسي.. في تجمعاتنا العائلية والصديقات أحاول أن يعلو صوتي في المطالبة بأن نتحدث مع بعضنا ولا يتحدث كل منّا على حدة في جواله.. أو يظل محدقاً في الشاشة.. يقرأ الواتس أب أو يكتب، أو يشاهد ال "يوتيوب".. أشعر بالخجل إن فعلت ذلك كونه ينتقص من قيمة الآخر وأهمية الالتقاء به.. أو أهمية ما اجتمعنا من أجله..!
المقربون مني يشتكون أنني لا أرد على الهاتف من المرة الأولى التي عادة ما يقوم بها البعض وأنني أتأخر في الرد رغم أهمية الأمر أحياناً.. خاصة في المنزل.. وأعتقد أنّ الهاتف الثابت لايزال على قيد الحياة والأسرة وأقرب الصديقات يعرفونه وبالتالي هو يرن ومن كان مستعجلاً عليه أن يتصل عليه وسيجدني أردّ لمعرفة المتصل.. وقد أرد أحياناً على الجوال بسرعة لو كان في يدي وشاهدت الاتصال.. أما أنني أتفرغ له للرد كلما رنّ ومهما كانت التزاماتي فلا يمكن أن أكون كذلك.. ربما هو سلوك حياة أو تركيبة نفسية أو توافق مع النفس.. أو مثال غريب للتعامل مع الهاتف الجوال الذي يظل صامتاً ولا أعود إليه إلا كل كم ساعة وقد يترك أثناء النوم في المكتب حتى بعد ظهر اليوم التالي..!
صديقة لي تصرّ عليّ بمراجعة الطبيب النفسي وتتحدث بجدية أنه لابد من ذلك لأنني مريضة.. وأنّ الأمر لن يستغرق كثيراً فنحن نحتاج لمراجعة الأطباء النفسيين، كما ترى.. وهي تعرف جيداً أنني أختلف معها في مفهوم الطبييب النفسي الذي قد يقوم كل منّا بما يقوم به أحياناً خاصة من يذهبون للفضفضة حيث أنه من الممكن أن يسمعه صديق وانتهى الأمر!!
أهرب من رنيين الجوال لكنني أتواصل بعدها مع من اتصل وبالذات الصديقات والأهل.. وقتما أشعر أنني أستطيع أن أتحدث بهدوء ومزاج وليس وقتما يفرض عليّ..! هل هو الطبع البشري والتعود عليه؟ أم أنه رفض للحصار الذي فرضته علينا التقنية الحديثة والتي باتت تحاصرنا من كل جهة.. فأنت محاصر برنين هاتف ورسائل من كل الاتجاهات من جوال وتويتر وفيس بوك وإيميل.. وعليك ترك حياتك والتفرغ لها والرد في نفس اللحظة وهو الأصعب، ومن ثم تجاذب الحوار بأشكاله وفرضيته وفي أوقات قد لا تكون فيها مهيّئاً نفسياً أو مستعداً لحوار!
تعودت أن أستمتع برؤية الناس ورصد سلوكياتهم أثناء التسوق في السوبرماركت الذي أجد متعة فيه مع والدتي عادة وكنت أقف أمام الكاشير لأرصد العائلة والأطفال وهم يمارسون الانتظار بهدوء وتجد نوعيات وأنماطا بشرية متعددة وكيف تمارس سلوك الانتظار.. تغير الأمر في السنين الأخيرة.. في ممرات الماركت يتسوق الشخص وهو يتحدث أو يكتب في جواله.. وبدون تركيز.. وأمام الكاشير يبدد الانتظار إما بالحديث أو القراءة وعدم الاستمتاع مع أطفاله أو أسرته.. وعدم ملامسة متعة مشاهدة الآخرين والإحساس بالتعايش مع من حولك!!
من يمتلك حياتك ومن يسيّر تفاصيلها اليومية؟ من لديه القدرة على إدارة أيامه والاستمتاع بصفائها؟ هو أنت أم الآخر؟ ولا يقصد بالآخر هنا الأشخاص، ولكن نمط الحياة وفرضياتها علينا.. ورضوخ الإنسان لها لتديره كيفما اتفق عليه.. تمنحه حق السيطرة وتمنعه من حق أن يكون كما يشاء.. أو كما عليه أن يكون..!
مفتاح الحياة الصافية هو أنت.. من خلاله تملك استقلاليتك كإنسان طبيعي.. تضحك تفرح تكتئب.. تصمت تصرخ مع نفسك وليس بحصار التقنية.. تهرب تختفي.. ترضي نفسك أولاً وليس الآخرين طالما أنك لم تعتد على أحد منهم..!
أعترف أن التواصل مع الآخر بهذه القوة التي يمارسها البعض في كل وسائل التقنية قدرة هائلة لا أمتلكها ولن أمتلكها أبداً ولا أستطيع أن أمارسها.. فهي في نظري كارثة عندما نصبح أسرى أجهزة افتراضية تحاصرنا لنتواصل مع أناس أيضاً افتراضيين لا نعرفهم ولا يعرفوننا.. نكتب نتحدث نحجب الضوء عن الحقيقة.. نكتب تاريخاً ليس ككل التواريخ.. ولكنه تاريخاً افتراضياً بعيداً عن الأرض ولا يلامس السماء.. مبنياً على الوهم وليس واقع البشر الحقيقي!!
النفس البشرية مسألة شائكة ومعقدة.. تفيض بالغموض.. والتظاهر، وفي الوقت نفسه لديها القدرة على التحكم بمسارها إن أرادت ذلك.. ولديها القدرة الكاملة على فتح أبواب المنفى الذي تدفعها إليه وسائل التقنية لتجردها من إنسانيتها وقدرتها على التحكم فيما تريده.. لتعيش وتقرر ما تحبه وما تفعله.. برؤيتها وليس برؤية ما يفرض عليها لأنه سيتحول إلى سرد مؤلم وعابر تضربه أول رياح خفيفة تهب..!