كان يومًا عمليًا شاقًّا، حافلًا بالجدل مع رئيسه، والنقاشات الحادة مع زملائه ومراجعيه.. كان يشعر وكأنه جنديٌ على أهبة الاستعداد لخوض أي معركة محتملة.
ركب سيارته فشعر بشيء من الهدوء، مكّنه من إغماض عينيه والغوص لثوانٍ تحت أمواجه الهادرة! أخذ نفَسًا عميقا.. ثم فتح جواله وتخطّى بعض الرسائل النصية التي تحمل إعلانات مملة، وجسّ بإبهامه ذلك التطبيق الأخضر، كانت المحادثات فيه ما زالت تتدفق من مجموعة «لمّة أحباب»، دخل للمجموعة ولم يَمضِ وقتٌ طويل حتى عرف السبب، خلافٌ حمي وطيسه بين «أبو محمد» و»أبو صالح» تطور لتلاسن عبر الرسائل الصوتية.. خرج وأغلق الشبكة.. فكّرَ للحظة: لأمرٍ ما سميت هذه المتاهات الافتراضية شبكة!
شعر بأنه بحاجة إلى إجازة ولو لمدة أسبوع، يُلملمُ فيها خسائره، ويعود قليلاً للوراء ليثِب وثبته الحاسمة! كانت الإجازة أمله الوحيد في استعادة قواه لمواصلة المعركة.. عند وصوله للبيت، تشبث به أطفاله وقبّلوه، كانت حفاوتهم وسعادتهم الغامرة به تُطفآن شيئاً من حرائقه.. لكن لم ينتهِ تشبثهم به عندما وصل لسريره، كانوا يأملون أن يلعب معهم ولو لدقائق، ودون أن يشعر دفعهم خارجاً وأقفل الباب.. قذف ثوبه وشماغه وهوى بنفسه على السرير.. ودّعَ يقظته بمشاعر مثقلةٍ بالألم، وراح يستعجل النوم هاربًا حتى من نفسه.. في المساء استيقظ، وكان كلما انغمس في يقظته أكثر سرت فيه من جديد روحُ الجندي الذي يبحث عن معركة أخرى! لكن بدا هذه المرة كأنما يبحث عن ضالة، فقادته خطاه إلى: المكتبة، ذلك العالم الذي يُحدِّث نفسه بأنه أبعد الأمكنة عن الصخب.. لكنه كان يشك في ذلك، فأي زاوية في هذه الأرض لم يلج إليها الصخب؟
جلس إلى مكتبه، مُحدّقًا في مئات الكتب التي على الرفوف أمامه، وجد في هذا الصمت ما شجعه على التفكير، وأثار في نفسه معنىً جديدا: هل حقاً أنا بحاجة إلى كتاب يأخذني بعيداً؟ أو أفتقر للحظات هادئة في هذا العالم الصاخب تُعيدني إلى نفسي أو تُعيد إليَّ نفسي؟ فكّر أنه ربما استمع للآخرين بما فيه الكفاية، وآن له الآن أن يستمع للصوت الصاعد من أعماقه! حتى هذا الحشد الضخم من الكتب، حين أصاخ بسمعه وجد أن له ضجيجًا وأصواتًا بعدد الحروف المبثوثة فيه، كأنما كل كاتب منهم وجد فرصته التي تُخرجه من صمته طيلة العقود الماضية!
وفيما كان غارقاً في حمأة هذا الضجيج المتداخل في جمجمته، حتى صار ذهنه نهبًا لمشاجرات العمل، وملاسنات وسائل التواصل، والأصوات الرهيبة المحتدمة من المؤلفين.. هناك وفي تلك الزاوية الزاخرة بحضوره، وضع يده على الكنز الذي أغناه طوال حياته!
** **
- منصور بن إبراهيم الحذيفي
https://www.al-jazirah.com/2020/20200612/cm15.htm