الجريمة.. الناعمة

جريدة الرياض | الجريمة.. الناعمة
تم ق ن
نجوى هاشم



قام صيني بشراء تذكرة لرحلة طيران على الدرجة الأولى للسفر داخلياً.. وكان يذهب كل يوم إلى مطار "xian" لما يقارب العام، يأكل بالمجان في صالة الضيافة.. ويغير رحلته إلى اليوم التالي.. وبعد أن حضر حوالي 300 يوم إلى المطار.. وتناول طعامه.. قام بإلغاء تذكرته واسترجاع كامل قيمتها قبل انتهاء صلاحيتها.. ولكن هل انتهت القصة على حدود استرجاعه لنقوده..؟
لم تنتهِ الحكاية.. خاصة أن مسؤولي المطار تنبهوا متأخرين إلى أن هذا الرجل ظل يتناول طعامه مجاناً لمدة 300 يوم كاملة بحجة أنه مسافر على الدرجة الأولى.. وفي النهاية لم يسافر واستعاد كامل قيمة التذكرة.. بعدأن كلّف المطار مبالغ هائلة تعادل قيمة تذكرته عشرات المرات جراء تناوله الطعام بالمجان.. فقرروا رفع قضية عليه بحجة الاحتيال.. ولكن الجهات المختصة قضت ببراءته "لعدم وجود مادة في القانون تنطبق على الفعل الذي قام به".. وتجرمه وتصدر العقوبة.. وبالتالي وفّر هذا الصيني طعامه لمدة 300يوم "ببلاش"وفي مكان راقٍ وتناول نوعية طعام ممتازة.. وقضت الجهات التي فصلت في القضية ببراءته..!!
أعجبتني الحكاية عندما قرأتها.. ليس لأنني مع ما قام به، ولكن لأن ما فعله مبتكر ومستحدث وجديد.. يربح منه دون أن يعاقبه القانون.. ولكن هل هو ذكي؟ أعتقد ذلك.. يقول "جوستاف لوبون" لا تحتاج إلى ذكاء لتخدع نفسك.. لكنّك تحتاج إلى ذكاء كبير لتخدع سواك..!
هو ذكي لأنه استخدم ذكاءه جيداً وبطريق أمّنت له ما يريده دون أن يتحمل المسؤولية.. يضاف إلى ذلك أن كل الظروف كانت مهيأة له ليستخدم ذكاءه من خلال دخوله وخروجه للمطار يومياً بحجة السفر.. والتذكرة كانت هي جواز المرور له.. بينما هذه الفرصة لاتتوفر لمن لايملك التذكرة.. كذلك هو امتلك الجرأة والشجاعة وعدم الخوف من الحضور اليومي والمداومة دون أن يلفت أحدهم.. أو يتنبه له..!!
وإذا استبعدنا الذكاء، ومن منظور القضية بشكل عام التي تبدو مضحكة وملعوبة إلا أنها في نظر القانون هي قضية.. "احتيال".. ولكن ما تعريف المحتال؟ (المحتال هو كل من يتوصل إلى الاستيلاء على خيرات مملوكة للغير.. سواء بالاحتيال.. أو باستعمال طرق احتياله..)
ويصنف المحتالون نوعين.. من يبيع أخباراً كاذبة.. ومن يروج لأخبار ليست حقيقية.. والمحتالون عادة يحتمون بالقانون.. ويعتقدون أنهم هم فقط المثاليون.. حيث يفرض المحتال أناه المثالي على العالم.. ويتبجح لفترة على الأقل في إبهار الناس.. ليروج للآخرين بما لديه ليحلم الآخر بأن يكون مثله.. له أدوار عديدة.. يحاول أن ينجح في أي منها وكأنه في مسرحية استعراضية.. ويجد من يصفقون له.. وتسعدهم أدواره.. وهم الضحايا يستجيبون لخداعه واحتياله .. وهم أحياناً ليسوا ضحايا بل شركاء يتواطؤون بوعي أو بدون قصد مع جريمته" الناعمة"..!
هذا الصيني الفكاهي كان يتناول طعامه يومياً بالمجان ولا يشعر بالذنب.. لأنه يعرف أن لا قانون يمكن أن يعاقبه..!
نجح في الاحتيال لأنه لديه قدرة فائقة في حيل تصدير التصديق للآخرين، بمعنى أنه هو في الأصل مسافر واشترى تذكرته.. ولكن ظلت هناك ظروف قاسية تحل عليه كل يوم وتمنعه من السفر.. رغم أنه يحضر إلى المطار كل يوم.. وفي النهاية يضطر للتأجيل..!
يكسب هو فائدة من احتياله.. لكن ليست الفائدة هي الدافع الأساسي للاحتيال.. ولكن مايستمتع به ذاتياً.. هو الدافع لجريمة يستخدم فيها الذكاء.. ولايستطيع القانون أن يصدر أحكاماً بها.. ذلك لأن القانون في العالم يحاكم على جرائم الاحتيال في حالتين فقط.. جريمة الأموال.. والاحتيال الذي يقوم على تغيير الحقيقة الملموسة.. لكن في احتيال الصيني لايمكن التطبيق للعقوبة.. وهو مايعكس على مستوى العالم ضعف العقوبات المخصصة للاحتيال.. خاصة في مواجهة قدرة المحتالين على التجديد والابتكار.. رغم أن الخداع في حد ذاته جريمة منظمة..!
أخيراً القانون لايحمي المغفلين.. ولا يبرر سذاجة الضحايا.. لكنه في حالة ذلك الصيني.. يكشف مثالية الشعب الصيني رغم ذكائه الواضح وانشغاله بنفسه.. وعدم توقف أو ملاحظة موظفي المطار.. أو صالة الضيافة لهذا المسافر الذي لايغير نظامه في الحضور وتناول طعامه.. تخيل لو كان في مطار لدينا هل سيستمر لمدة300 يوم في الحضور دون أن يلفت اهتمام أحد؟ أشك في ذلك؟ وقد يسأله أحدهم عن سبب حضوره لو تكرر لأسبوع!!
ربما أيضاً التعداد السكاني المهول قد ساهم في عدم الملاحظة لمن يدخل أو يغادر أو يتكرر حضوره.. بالمناسبة تردد على الصين العام الماضي من السياح 55 مليون سائح!!