سرقة مال يتيم
منذ نعومة أظفاري، وأنا أسمع أبي رحمه الله يقول: العم والد.. والخال والد، في معرض حديثه مع أمي أمد الله في عمرها، لكني بالطبع لم أكن أعرف ما يقصده في ذلك الحين بهذه الجملة. كان أبي رحمه الله تاجراً متنقلاً، يسافر من بلد لآخر، ويحضر بضائع يبيعها هنا وهناك، وكنت وأخواتي الثلاث اللاتي يكبرنني، نعيش في رغد من العيش وسعادة، وحين بلغت من العمر الخامسة عشرة، كان أبي يملك أكثر من محل لبيع القماش المنوع، وكان يدير المحل الكبير بمساعدة أحد الرجال المخلصين، والمحلان الآخران، قد عين لكل منهما رجلاً أميناً وتقياً يخاف الله، وكان من عادة أبي أن يجتمع بهما كل ستة أشهر ليعرف حساب المبيعات، وفي كثير من الأحيان كان يكافئ كل منهما على جهده بمكافأة مجزية حين يعرف قيمة الأرباح، ويؤول ذلك لحرصهما على العمل ووفائهما له، فكان كل عام يزداد ربح المحلات غير ربح المحل الكبير الذي يديره، حتى اشترى أبي لنا بيتاً كبيراً في حي جديد، وبعد شهور اشترى لنا مزرعة، ولم يمضِ عام آخر حتى افتتح محلاً كبيراً للأقمشة في منطقة أخرى وعين عليه مديراً ووضع له مشرفاً يتابعه بين حين وآخر. مضت السنوات تجري، تزوجت أخواتي، وأصبح لهن أولاد، كما أصبح لأبي وأمي أحفاد، أما أنا فقد حصلت على الثانوية العامة، ولم أقبل في الجامعة التي أريد، فبعثني والدي لأكمل دراستي في إحدى جامعات كندا، وبعد مرور عامين ونصف على سفري، تعرض والدي لحادث خطير وكسور متفرقة في أنحاء جسمه، وتهتك إحدى الكليتين مما أدى إلى فشلها بعد فترة وتهتك في الرئة مما أدى إلى بتر جزء منها، مما جعل ممارسته للعمل حتى بعد جبر كسوره مستحيلة لعدم قدرته على التنفس بسهولة، وعدم قدرته على التخاطب مع الآخرين بوضوح ويسر وسهولة، وحين زرته في المستشفى حاولت إقناعه قطع دراستي والجلوس معه والعناية به، والإشراف على محلاتنا، إلا إنه أصر على متابعتي لدراستي قائلاً: يا ابني الشهادة أهم عندي من كنوز الدنيا، وهي سلاحك الذي يضمن لك العيش الكريم، المال وحده لا يكفي، فإذا خسرت كل مالك لا قدر الله الشهادة تجلب لك المال، لكن يا ابني لو خسرت مالك، ولا تملك شهادة فمن أين ستعوض ما فقدته؟! لكن يا أبي من سيدير ويشرف على أعمالك، قال: عمك فهمي سأعمل له وكاله مؤقته ليدير أعمالي، وحين تعود لن أقصر معه، وستمسك أعمالي، إنها شهور تمضي وأسابيع وأيام تمر بسرعة البرق، المهم أن تحرص على دراستك، وتبذل كل جهدك لتعود لي بالشهادة التي تحلم بها وأحلم بها لك، أقنعني والدي بوجهة نظره، فاقتنعت لأرضيه وأريحه، لكني كنت أعود لبلدي في كل عطلة، وأتابع أعماله عن طريق عمي، كان عمي رجلاً متوسط الحال، وكان أبي رحمه يزوده ببعض المال بين فترة وأخرى من باب المحبة والأخوة، لكن الذي لم يعرفه أبي عن عمي أنه رجل ذكي وطماع وحسود، وصاحب حيل، فكان يسرق أبي بطريقة غير مكشوفة، وقبل وفاة أبي بشهرين طلب منه أن يوقع على وكالة جديدة، تمكنه من التوقيع بدلاً منه على صفقة مربحة جداً، وكان أبي في تلك الفترة يمر بحالة صحية متدهورة، ويكاد جهاز التنفس لا يفارقه أبداً، وقد منع عنه الأطباء الزيارة وكثر الحديث، إلا أن عمي وجد في ذلك فرصة له ليوقعه على ذلك التوكيل المشؤوم، وفي أقل من شهرين استولى عمي على أملاك أبي كلها بيعاً وشراء بالوكالة التي وقع عليها والدي عن طريق الحيلة، وحين استغنى عمي عن المديرين الذين عينهم أبي، واعترضوا على ذلك لعدم عملهم أي خطأ، أخبرهم عمي بكل جرأة وجبروت وبضمير ميت، أنه اشترى المحلات من أبي، وأنه من حقه أن يحضر موظفين صغاراً في السن، أسرع الموظفون لأبي مكذبين غير مصدقين، كيف يبيع أبي كل محلاته لأخيه دون أن يشترط على أخيه بقاءهم في أعمالهم، كان سماع الخبر صدمة لأبي، لم تمهله سوى بضع دقائق قال: فيها لا.. لا لم أبع أي شيء وأنتم كأولادي، س س سسرقني أخي حسبي الل.. ولم يكمل جملته فاضت روحه إلى خالقها، كما أخبرني موظفوه.
عدت كالطائر الجريح إلى بلدي موجع القلب، وقد أنهيت امتحاني النهائي لكني لم أحضر الشهادة التي كنت أتمنى أن يراها أبي قبل أن يسبقه الموت، قبل أن أعرف أن عمي سرقه وتسبب في موته، وأخذ منه جهد تعب وشقاء سنوات طويلة. ولولا أنه أكرم أمي وكتب لها البيت الكبير الذي نعيش فيه، وترك بعض المال في حسابه باسمها لكنا نعيش في حالة مزرية، تذكرت لحظتها حرص أبي على حصولي على الشهادة، والحمد لله تخصصي كان في القانون والشريعة وبهذا قررت أن أرفع قضية على عمي لاحتياله ونصبه على أخيه، خاصة أن التوقيع كان في أشد حالاته المرضية، فالله لن يضيع حقاً وراءه مطالب، كما تذكرت أن العم أو الخال في أحيان كثيرة لا يكونون آباء لأبناء إخوانهم أو أخواتهم لاسيما إذا دخل الطمع قلوبهم، وسكن الشيطان عقولهم، وماتت ضمائرهم.
المجلة العربية :: آراء