|
خـــــــــــدمات الأعضــــــــــــاء
|
.::||[ آخر المشاركات ]||::. |
|
LinkBack | أدوات الموضوع |
المشاركة رقم: 1
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تلك الرائحة
تلك الرائحة
خلال ثمانية وعشرين عاماً انتقل الصندوق الأحمر، إلى أماكن متعددة، ففي البدء كان بحوزة أخي الأكبر منذ وفاة أبي، 1413هـ يرحمه الله. ثم انتقل إلى أمي، التي كثيراً ما تركت شقتها في القرية لتذهب حيث يقيم أبناؤها عادة في المدن. وحين تعرّض المنزل الريفي للسرقة، كان لزاماً على أحدنا أن يحمل الصندوق الأحمر، وأن يكون بعهدته. فيقيه من عاديات الزمان. ففيه الصكوك و(الحجج القديمة التي يطلق عليها الأهالي: الحجج الجديّة). والتي يفوق عمر بعضها ثلاثة قرون! وهي أملاك أبي وأسرتنا، تلك الأراضي التي ورثناها من أولئك الجدود الذين تعبوا في حيازتها، وربما سالتْ دماء، وسُجن أشخاص، بسبب هذه الأرض التي كانت تمثّل لهم كل شيء تقريباً. فهي ملاذهم بعد الله في حياة ليست هادئة بالطبع في ظل تطاحن القبائل، وقسوة الحاكم، وانتفاء قانون العدالة الذي يحلّ محله دائماً قانون القبائل الموغل في الثأر والخصومة والعيب، والعُرف القَبلي، الذي هو في النهاية القانون المسيطِر، في ظل غياب الدولة والنظام. فالقتل وتصفيه الخصوم هو أمر اعتيادي في تلك الأيام. حملت الصندوق الأحمر معي إلى حيث أسكن، كان محاطاً باهتمام بالغ مني. وحين وصلتُ، فكرتْ في المكان الآمن واللائق به. كنتُ قد اصطفيت من مقتنيات أبي حين مات: مِشلحهُ الجَمَليُّ المُذهبُ بالأصفر، والذي كثيراً ما كان يلبسه في المناسبات وحين ذهابه للإصلاح بين الناس، وفي ارتياد المحاكم والشُرط، وحين يذهبُ للقاء أمير الطائف، بن معمر (الأب)، لمراجعته في أمور القضايا التي أفنى عمره يرحمه الله في إقامتها وفي مراجعتها. واصطفيتُ أيضاً خنجره النافعي، الذي تمنطقتُ به ذات ليلةٍ راغباً في (عَرضة) ثقفية مُفعمة بدندنة الزير، وصوتي يلعلع بين الصفوف كشاعر مبتدئ، لكنني لم أستطع أنْ أخرج به إلى الجمهور، فحزام الجنبية، أكبر من جسدي الناحل، ووسَطي الذي لا يقارن بوسَط أبي يرحمه الله. فاكتفيت بمسدس عَدني، يطلق عليه الأهالي (أبو نقطة) حيث كان به نقطة حمراء، وكنتُ رامياً ماهراً، لكنَّ المسدس الأثير لم يكن لي أبداً، فقد كان من نصيب أخي الآخر. استقر بي الحال بأنْ وضعت الصندوق الأحمر في حقيبة فرنسية شاركتني سفري وترحالي لعقدين من الزمان، فكان لابد وأنْ تتقاعد، فلم أجد أفضل من هذه الوظيفة لها: أنْ تحتفظ بالصندوق الأحمر. وبمقتنيات أبي. وهكذا: وضعت الصندوق كما أخذته من أمي دون أنْ أفتحه أبداً، فلم يكن بي حاجة لفتحه، وليبقَ محفوظاً في موضعه إلى أنْ يجيء الوقت المناسب لفتحه. في زمن كورونا، وأنا أتناول كتباً جمّة من أجل إعداد مادة كتاب الحداثة، برز الصندوق لي ذات صباح بعد أنْ اضطررت لفتح الحقيبة الفرنسية من أجل صورة ما، آثرتُ إخفاءها في الحقيبة الفرنسية، فهي الأليق بها أيضاً. وقررتُ أنْ آخذ نسخة من كل الوثائق وأحتفظ بها على هيئة pdf. كانت الوثائق محفوظة في قطعة قماش، لُفتْ بعناية فائقة، وهناك أوراق أخرى بقيت موضوعة بجانب قطعة القماش التي ما أنْ لمَستُها حتى فاحت رائحة أبي، عطره الأخاذ، دوختني الرائحة، ضممتُ قطعة القماش إلى أنفي غير عابئ بخبرتي الكيميائية التي تحذّرني من عدم استنشاق الأشياء العتيقة التي ربما تولّدت بها بكتيريا قاتلة أو تفاعل فيها الرصاص المترسّب في الورق والحبر الصيني وربما هناك نظائر كيميائية مميتة. لم أعبأ بهذا كله، بقيتُ ولا أدري كم لبثتُ أشتم تلك الجعلة الموغلة في القِدم. وحين جاء الأولاد وأحاطوا بالكمبيوتر تنبهوا للرائحة التي تنبعث من الأوراق، ومن القطيفة التي تلفُ أوراق أجدادهم. تلك الرائحة التي لا تشبه أيه رائحة، كانت مزيجاً من المسك والكافور، والعود المعتّق، والخزامى التي كان يزين بها أبي رأسه، والبعيثران والريحان التي كثيراً ما يقتطف منها أبي شيئاً حين يعود آيباً من المزارع في رحلة العودة للبيت. تذكرتُ رواية العطر، لباتريك زوسكند، وكيف كان غرنوي الشقي يقوم باستخلاص العطر من أجساد وعرق الصبايا. لكن، أنى لي باستخلاص رائحة أبي، من أوراقه وهذه القطيفة التي تُشبه تلك التي تُلفُ بها الأشياء المحنطة. وقد حُرمت من معملي ومن جامعتي في زمن الأوباش! وتنبّهتُ إلى أنَّ الروائح تبقى متشبثة بالأشياء كلما طال بها الزمان، فهي مكونات صلبة في غاية الصغر، تتعلق بأسطح الأشياء -هكذا علّمتنا الكيمياء- وهي عملية كيميائية معروفة تسمى الامتزاز (Adsorption). ولذا اكتفيت من الموقف باستنشاق الرائحة، بعد أنْ يئستُ تماماً من القبض على رائحة أبي إلى الأبد. سعد الثقفي المجلة العربية :: آراء
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|