|
خـــــــــــدمات الأعضــــــــــــاء
|
.::||[ آخر المشاركات ]||::. |
|
LinkBack | أدوات الموضوع |
المشاركة رقم: 1
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||
امرأة من زمن الكورونا
هناك على قارعة الذكريات، وبينما كانت تسافر إلى شيء من التاريخ، وتحمل أسفاراً ومكاتيب؛ سقطت إحدى قصاصاتها التي دونتها في زمن الكورونا. بدت وكأنها انتفاضة أو يقظة بعد عميق السبات. كتبت أعلاها: لا بأس يا بلادي، لا بأس يا صديقة الليالي الطويلة.
واستطردت: لطالما حدثتني نفسي عن فكرة الاختفاء، عن فكرة الغياب والانعزال عن كل ذلك الضجيج الذي يؤرق فطرتي ويشعرني بالغربة. كنت أشعر بالاختلاف أو كشيء يستعصي وصفه. فأنا من أرواح أكتوبر، هادئة كبركان، قوية كحرب، ولينة كالسلام. قد أمشي أميالاً على أطراف أصابعي دون أدنى التفاتة أو ربما دونما أشعر. وعن عذوبة المواعيد في زمن العجائب فقد أدمنت ذلك الضوء الساكن في غسق الدجى والذي اعتاد على معانقة شرفة حجرتي، لطالما حمل القمر عبء تبديد تلك العتمة بداخلي، كان يربت على قلبي كلما غشاه الحزن. وعن لذة المكاتيب فسلام على ذلك المكعب الخشبي المتهالك الذي يقبع في إحدى الزوايا -غير المهملة أبداً- والذي نذر وجوده لاحتواء تلك المتسللة ليلاً، حين تقصده خلسة كل ليلة لتنزع الوجع من بين أضلاعها. وعلى ألحان جارة القمر أعيش أعراس أيامي وأسقي سنبلاتي اليابسات. لقد كنت أشعر بالامتلاء، لم أكن بوادٍ غير ذي زرع، أبداً. ولكن لوهلة خذلت الدنيا سليقتي وأحكمت قبضتها، حتى أنني لا أتذكر الحادثة جيداً من فرط التغييب. كل ما أتذكره أنني خرجت من رواية روحية لذيذة دون حول مني ولا قوة، ومشيت عقوداً في الاتجاه الخاطئ حتى ضللت الطريق! وكأن أحدهم أخرجني عنوة وطوى صفحتي قبل أن أعود. ها نحن عدنا إذاً، أنا أعتذر لقد كنت أفتش عن نفسي في زمن جديد ومع أناس لا أعرفهم. ولكنني يا لأسفي خُذلت، لقد كان كل شيء رمادياً، لا دهشة فيه ولا شغف. جمعٌ من العرائس البلهاء وقطيعٌ من الحمقى، فما أكثر الناس وما أقل الإنسان! الغربة عن الروح كسقوط في غيابة جب. لقد كنت هناك لزمن طويل أرى السكرى وقد ثملوا التفاهات، واستبدت بهم الخطايا. حتى قرأت ذات ليلة: (حتى وإن سقطت أحلامك في بئر يوسف، ستمر قافلة العزيز)، فهدأت نفسي. وفي ليلة من ليالي مارس، لم يكن ربيعاً عادياً، فما بين كاف ونون، كانت البشرية على موعد مع ذلك الضيف الثقيل، قيل بأنه قدم من الشرق على حين غرة، طاف هذه الأرض أشواطاً وأشواطاً، ولم يلقَ من سفره هذا نصباً. وكان يأتي البيوت من ظهورها، ويعوث في الدنيا فساداً. لم تكن تلك الليالي برداً وسلاماً على هذا الكوكب. فقد طال البقاء ودام المكوث وعزف الناس عن الحياة واستنفروا لتكديس المؤن. أغلقت المتاجر وتوعكت الطرقات وخوت السماء وأضحت المدائن كغريق يحاول النجاة. كمحتضر يقاوم الموت! ضاقت الأرض بما رحبت حتى جاء مخاضها وأعلن طب الحروب في بعض أمصارها. فكانت أقصى أمنيات ذلك المخلوق الطيني المسنّ أن يرقد بسلام قبل هذا ويكون نسياً منسياً. ضاق الناس ذرعاً، واتفق العرب على أن يتفقوا. تغنت الشعوب بأوطانها من شرفات المنازل، وضربت بلادي وملاذي أروع الأمثلة في احتواء الجائحة. كانت حانية حد السماء على أبنائها، كأم تجرعت مرارة الفقد وناضلت بشراسة من أجل البقية. منحتنا استراحة محارب لنداوي ندوبنا النفسية، لنعانق ذواتنا ولننفض الغبار عن عقولنا. لنتحسس علاقاتنا الأسرية، لنعيد شيئاً من الزمن الجميل. جعلتنا نشعر بأن ذلك الضيف لم يكن طاغية يمشي على الأرض فحسب، بل كانت للسيد كورونا مآرب أخرى. لم يكن تعذيباً قط بل كان تهذيباً. كان كإشارة تنبيه أو إشعار تذكير، كأداة لنداء الذكريات، كمدعاة لاجتلاب الفرح، كموعد مع عزلة طال انتظارها. عذراً أنا أكره الانتظار، أكره أن أتضور انتظاراً على أمل أن تحدث الأشياء، ولا تحدث. فكل الأشياء التي تأتي بعد طول انتظار وترقب تأتي باردة مثقلة بائسة! الانتظار وقوفٌ طويل، الانتظار موت بطيء. ولكنني وبالرغم من ذلك أتوق إلى العزلة وأكاد أهرم انتظاراً من أجل تلك اللحظة. ولن يفهم ذلك إلا أولئك الذين لم يحتسوا القهوة ساخنة قط من فرط الانشغال. ولإيماني بأن الصبح قريب، رتبت أمنياتي وأرسلت دعواتي للسماء: ليسبغ عليكم الرب نعمة التأمل الآسر، ومَلَكة الانغماس الطاهر، لتكملوا ذلك الشطر الذي لم يكتمل في جوفكم. في ذلك السكون الاحترازي، يا ساده، تأملوا، فقط تأملوا. أتعلمون! أغمضوا أعينكم، تنفسوا بعمق، تنفسوا حتى أخمص أقدامكم، وتأملوا، فقط تأملوا. لقد أمضيت وقتاً طويلاً، سنواتي العشرينية كلها؛ لأتسلق النضج. وكنت دائماً أفشل لهشاشة قلبي ولا منطقية تفكيري. وأدركت أخيراً بأن النضج ليس إلا حصيلة التجارب والأخطاء والآلام والخيبات، ما هو إلا نتاج قرارات مفصلية وهدنة مع الحياة تنص على خفض سقف التوقعات والآمال مع الآخرين وتقبل الذات بعيوبها وزلاتها، والمضي في طريقٍ رسمه المرء لنفسه دون أدنى مؤثرات حمقاء. وفي عقدي الثالث، زارني النضج وحل ضيفاً طال انتظاره. أتعون ما معنى أن تشاهدوا أنفسكم تكبر؟ أن تمشوا مسافات تقطفوا معها زهرات شبابكم؟ أن ينطفئ نوركم وتتضاءل ألسنتكم؟ أن يكون الصمت أبلغ؟ أن تعيشوا في غيمة سوداء؟ ثم بأمر الله تهبّ رياحكم، فتمطرون، وتزدهرون، وتحملون حياةً بين أيديكم؟ نحن يا أصدقائي بسطاء فقراء، تجذبنا التفاصيل وتبهجنا السعادات الصغيرة. نحن فعلياً لا نكبر أبداً مهما شاخت أجسادنا وتجعدت أيادينا، ما لم تشب أرواحنا. نحن نعيش في بحر لجّي يقذف بنا يمنةً ويسرة. فإما أن نتشبث بطوق نجاة ونناضل من أجل البقاء، أو أن ينتهي بنا المطاف بعيداً إلى حيث الانطفاء، إلى حيث الهلاك. فكونوا أشدّاء، حتى في ذبولكم أحياء. ورددوا اللهم روحاً لا تنطفئ وشغفاً لا يموت وبهجة تربت على رتابة أيامنا. قليل من الامتنان يا سادة لكل المسرات الصغيرة، فلولاها لما حيينا. إن هذه الحياة تحمل بين رفوفها فصولاً من المهد إلى اللحد، فأي فصول تلك التي ترى نفسك بها. فصول الانشراح والسلام، أم فصول البؤس والإملاق! أم فصول لم ترَ النور أبداً. أيها الطيبون: اقضوا الحياة كما لو كانت نزهة. تأكدوا بأن أمنياتكم مخبأة ليوم ما. ستفاجئكم الأقدار بلطف الله الخفي. سيأتيكم كل شيء بشكلٍ لائق، أتذكرون: (وقدّر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به)، في سجدة طويلة وليلة حالكة لا أحد فيها سوى مناجاتكم مع صاحب اللطف. تذكّروا دائماً (فاستجبنا لهم)، سيأتيكم جبر من الله عن كل تلك الليالي التي أوجعتكم ولم يكترث أحد لأمركم. سيمنحكم الحياة كغصن توت أو طوق ياسمين. ستأتيكم على هيئة فرص أو على هيئة أشخاص يجيئون كطلّ على قلوبكم، يمرون سريعاً مر السحاب وقد اعشوشبت أيامكم. وهذه سنّة حياتية مؤكدة، ثقوا بي. عن نعيم العزلة أحدثكم، عن متعة الاكتفاء، عن قشعريرة الإحياء، عن رحلة الغوص في الأعماق، ألا يشتاق المرء لذاته؟ ألا يقف على أطلال ذلك القلب الخاوي الذي هجرته العصافير. وتلك الروح البائسة التي أتعبتها المسافات. ألا يهديها تلك السعادات الصغيرة والامتنان الخفي الذي يعالج تجاعيده الروحية! يا أصدقائي: الفراغ ليس بنقمة أبداً إلا على المفلسين. ألم يأنَ لكم أن تحلّقوا بعيداً، أن تبددوا عتمة سماواتكم المظلمة! أن تمشوا طويلاً حتى تجدوا ضالتكم. أن تسيّروا جيوشكم لتعودوا بغنائمكم! هل شعرتم يوماً بذلك الاحتفاء الذي تعرفه شرفات الجنون جيداً، وذلك النسيم اللذيذ الذي يداعب شغاف القلب ببرودته الحانية. هل تكمكم أحدكم بغطاء عتيق واحتسى كوب قهوة أو سافر على متن كتاب! تُرى من شعر بأنه أخف من الهواء أو ارتقى على عتبات غيمة! لقد عدت إلى روحي أخيراً. كنت أرقص معها في ليالي الكورونا، لا شيء سوى صوت مارسيل خليفة (أحن إلى خبز أمي). كان الليل يمطرني ببهجة مطلقة حتى يشق الصبح خطوطه ويتنفس على استحياء. فسلام على تلك الليالي المطمئنة. منذ أن بدأت الجائحة ونحن نعلم بأن كل شيء يحدث بسبب ولسبب، كأما السفينة وأما الجدار. وبأننا لا نملك عصا موسى، ولكننا سننجو بالعناية الإلهية. العنود ناصر المجلة العربية :: إبداع
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
مواعين امرأة تسمى زينب | SALMAN | سواليف أدبــاء | 0 | 19 / 11 / 2020 26 : 09 AM |
امرأة بين صمتي وحبري | SALMAN | سواليف أدبــاء | 0 | 04 / 10 / 2020 48 : 09 AM |