للتعايش قصص أخرى
رغم أنه يؤذيه ويضيّق الطريق عليه؛ إلا أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم افتقد جاره اليهودي حينما لم يجد هذا الإيذاء المعتاد، سأل عنه فقيل إنه مريض، فزاره في منزله وأسلم اليهودي تأثراً بأخلاق نبي الرحمة. هذه القصة ليست رواية عادية من التراث الإسلامي؛ بل هي منهج رباني للتعامل بسماحة الإسلام مع الآخر على اختلاف دينه وعرقه ومذهبه.
فالمسلمون الأوائل تعايشوا مع مختلف الأديان التي بقيت محافظة على كيانها على مر التاريخ، فالأقباط في مصر واليهود في جزيرة العرب.. وغيرهم؛ لم يكن ليبقوا في هذه المناطق الإسلامية لولا سماحة الدين الإسلامي الذي أمرنا بالإحسان إليهم ولغيرهم. وفي منطقة الحدود الشمالية عموماً وفي محافظة رفحاء على وجه التحديد؛ كان السلوك الإسلامي قد بلغ أوجه في التعايش السلمي مع الآخرين على اختلاف أديانهم، فقد شكل هؤلاء الغرباء عمقاً ثقافياً واجتماعياً قوياً جداً حتى بدو وكأنهم غير غرباء في بيئة غريبة عليهم، وهم أصدقاء حقيقيون لسكان هذه المناطق ممن يدينون بالدين الإسلامي.
كان التعايش معهم وقتذاك بلغ مستوى عالياً، مذيباً كل الفوارق التي تعرقل مسيرة الإنسان وقافلة البناء والحضارة والوفاء بمتطلبات الحياة الأساسية، بعيداً عما يعكر صفوها من أصوات نشاز احتلت الساحة الثقافية في بلادنا ردحاً من الزمن، بعد ذلك الوقت الجميل؛ نتيجة الفهم الخاطئ لمبادئ الدين عند البعض، وهم قلة قليلة. كان جيوفاني رئيس المهندسين الإيطاليين الذين عُهدت إليهم مهمة بناء مدارس وزارة المعارف آنذاك في التسعينات الهجرية، وجاء جيوفاني كعادته إلى رفحاء للإشراف على النماذج المدرسية الحديثة التي تحتل موقعها في خارطة البلاد لأول مرة، جراء الخطط الخمسية التي ساهمت في ازدهار بلادنا في عهد الملك فيصل يرحمه الله. كان جيوفاني رجلاً في الستين من عمره (تقريباً)، طويل الشعر، يرتدي الصليب على صدره، ويتعامل معنا نحن الأطفال ببشاشة ولطف شديدين، وكان يحضر معه الحلوى لتوزيعها علينا كلما رأيناه قادماً إلى مشروع المبنى المدرسي. والدي رحمه الله كان وقتها إمام المسجد، وكان يصنع القهوة كل عصر ويستقبل الزوار فيما يسمى بـ(الشَبَّة)، وهي جلسة يتحلق فيها الزوار حول النار ويتناولون القهوة العربية ويتبادلون الأحاديث، وهي عادة متوارثة بين القبائل الشمالية ومستمرة حتى وقتنا الحاضر. فكر والدي أن يدعو (جيوفاني) هذا الرجل الإيطالي اللطيف، وفعلاً دعاه على القهوة، وفرح جيوفاني جداً بهذه الدعوة، وفي الغد دعاه والدي أيضاً على الغداء، وصنعنا له الكبسة السعودية بلحم الضأن المحلي، وأحضر جيوفاني معه ورقة وقلماً، وبدأ سيل الأسئلة ينهال علينا منه، وكأنه صحفي يقوم بمهمة صحفية، تناول كل شيء تقريباً بالسؤال: ما هذه؟ وكنا نجيبه طبعاً، ويطلب منا أن ننطقها، ثم يدونها في دفتره بلغته الإيطالية كما نطقناها، سأل عن القهوة مكوناتها، وعن الكبسة ومن أين نحضر اللحم؟ وهكذا انتهى ذلك اليوم، ولم تنته الأسئلة بعد! وفي ذات يوم أتى جيوفاني متأبطاً (حملاً) صغيراً، وأخذ ينادينا من بعيد (كروف كروف)، حيث أراد أن يرد هذه الدعوة بأن أحضر هذا الخروف الصغير، وقال لوالدي (كبسة كبسة)، ضحكنا جميعاً، فهمنا أنه يريد أن يدعونا على الغداء في بيتنا، وفعلاً تم له ذلك ونحن متعجبون من كرم هذا الإيطالي وسرعة تأقلمه مع عاداتنا وتقاليدنا، واستمرت العلاقة أكثر من خمس سنوات حتى جاء اليوم الذي ودعناه فيه قافلاً إلى بلاده إيطاليا في رحلة اللاعودة وسط حفلة من الدموع. يا لوفاء هذا الرجل! يا لصداقته وعمق معانيها! وحقيقةً مثل هذه العلاقات التي نشأت بيننا وبين الأوروبيين العاملين في بلادنا غير مستغربة تماماً، خصوصاً من العاملين في محطات التابلاين التابعة لشركة أرامكو لأكثر من خمسة عقود خلت، وذلك لأن هؤلاء الأوروبيين والأمريكيين في الغالب قضوا سنوات طويلة في بلادنا، وفهموا طبيعة السعوديين وأخلاقهم العالية، وطريقة احتفائهم بالضيوف والغرباء والتي توارثوها من أسلافهم عبر مئات السنين، وكذلك جلسات السمر التي تزين مجالسهم والتي يسمونها (الشَبَّة)، إذ كانت نافذة لتلاقي الحضارات وتلاقح الأفكار المقارنة التي تظللها روح التسامح والتعايش مع الآخر. الهولندي (جون ماكينجي) قضى 57 عاماً مديراً للعمليات في شركة التابلاين، وأمضى سنوات شبابه متنقلاً بين محطاتها، ومكث في رفحاء وعرعر سنوات طويلة من عمره، هذا الهولندي هزه الشوق لأماكن الذكريات ولأطلال العهد القديم حينما قضى سحابة شبابه هنا وهناك، أراد وقد شارف على السبعين من عمره أن يزور من بقي من أصدقائه القدامى، وسنحت له الفرصة حينما دعاه أحد أصدقائه لحفلة زواج في البحرين، وقرر بعدها المضي إلى السعودية مروراً بالمنطقة الشرقية وحتى القيصومة وحفر الباطن ورفحاء وعرعر وطريف إلى القريات فالحدود الأردنية ثم عاد إلى بلاده في رحلة اللاعودة، وقد بلغ من العمر عتيّاً. ما الذي دعا هذا الرجل الطاعن في السن إلى زيارة أصدقائه القدامى؟ ما هذا الحنين الذي عاوده وهو على أعتاب الثمانين إلى الأماكن القديمة؟ لا شك أن عمق العلاقة التي ربطته بأبناء هذا البلد هو المحرك والدافع القوي لكل ذلك، ويظهر ذلك من مظاهر الاحتفاء وحفلات الاستقبال التي أقامها له أصدقاؤه القدامى في المنطقة الشرقية ورفحاء وعرعر وطريف، وقد وثق زيارته تلك بالصور والأحداث ونشرها في مدونته الشخصية، وقد تواصلتُ معه ذات يوم عبر البريد الإلكتروني وهو في بلاده هولندا بعدما أنهى رحلته تلك، وقد رحب كثيراً بتواصلي معه، وسألني إن كان لي أقرباء يعملون في محطة التابلاين، فأجبته بلا، وأخبرته أنني صحفي أبحث عن مادة صحفية لتوثيق هذه الفترة من عمر منطقتنا (الحدود الشمالية)، وقد نشرتها فعلاً في صحيفة الجزيرة (الخميس 14 شوال 1431 هـ العدد 13874). كان ماكينجي سعيداً للغاية وهو يتذكر ملعب القولف في رفحاء، ويتذكر ملعب كرة القدم، ويتذكر الحياة الصاخبة التي لم يبقَ منها إلا بقايا أشجار الأثل التي جلبها الأمريكيون معهم في بداية تأسيس الشركة، قال لي ماكينجي: (شكراً لإرسالك هذه الرسالة التي أسعدتني، والذي أسعدني أكثر هو معرفتي أن ما كتبته في موقعي وصل إليكم، ولكن الشيء الذي لم أستطع فهمه هو رغبتك في نشره في جريدة، والشيء الآخر هو ما الذي سيجعل أهل الشمال مهتمين فيما كتب في موقعي غير أولئك الذين عملوا في أرامكو أو أبنائهم وأقاربهم والذين قد يهتمون بمثل هذه المعلومات، ولا أخفي عليك أنهم كانوا دافعاً لي لكتابة تلك المعلومات في موقع على الشبكة الإلكترونية. خمسة وعشرون عاماً مضت على إغلاق مضخات طريف رفحاء والقيصومة، ومنذ أن مر بها آخر المارين من البشر. ثلاثة فقط من الموظفين الأمريكيين الذين تزامن عملهم في فترة واحدة في رفحاء لا يزالون أحياء وهم: هاورد جونسون، إد أولسن، تشوك هارد وك. أيضاً هناك دون وك، لا يزال على قيد الحياة، ولكنه كان يعمل في طريف وليس في رفحاء. ولا يزال من الأحياء من الموظفين الأوروبيين كل من: توني وجي نس فيرهوفن. جينس قد يكون هو الأشهر في رفحاء لأنه هو من بدأ بتأسيس فريق كرة القدم الذي كان مشهوراً في تلك الفترة. أيضاً أندري راد وهاري هويكزرما وأنا ما زلنا أحياء، ويكون عددنا في المحصلة (5) أحياء. ومن الموظفين البريطانيين فقط جون هندلي لا يزال على قيد الحياة. ما تبقى منا فقط هذه المجموعة الصغيرة. وإذا أردت استخدام الصور والمقالات والمعلومات للنشر أنا أسمح لك بذلك ولكن يجب أن تعدني بأن تخبر القراء التالي: نحن الموظفين القدامى لا نزال نجتمع في بعض المناسبات ولا نزال نتحدث في اجتماعاتنا عن سنواتنا الماضية في التابلاين وأصدقائنا السعوديين ولحظاتنا وأيامنا التي عشناها. ومن خلالك أود إخبار الأصدقاء القدامى أننا لم ولن ننساهم ولن ننسى صداقتهم ولا تلك اللحظات التي عشناها معاً، وأود أن تخبرهم أنهم سيبقون بالذاكرة إلى الأبد).
انتهت كلماته، ولكن رسالته قد بدأت حيث تحكي عمق التعايش وتمازج الثقافات، وحاجة الإنسان لأخيه الإنسان. وعلى الطرف الآخر هذا الهولندي توني فير هوفن والذي عمل مهندساً في صناعة البترول في المملكة لأكثر من (17) عاماً، وقد استضافته قناة العربية، وتحدث عن ذكرياته في رفحاء التي قضى فيه أوقاتاً طويلة بصحبة عائلته، وأنجب في رفحاء ابنته الأولى (مونيكا)، وكان توني قد بعث برسائل محبة إلى أهالي رفحاء عبر المواقع الإخبارية الخاصة بالمحافظة والتي وقع عليها أثناء تتبعه لأخبار المحافظة والسعودية وأصدقائه القدامى، وقال لهم في رسالته:
(إنه مشتاق لأهالي رفحاء، وفخور بأنه ساهم في نقل التقنية والتعامل معها لبعض أبناء المحافظة عندما كانت مجتمعاً صغيراً للغاية).
والهولندي توني فير هوفن يحتفظ في منزله بهدايا من التراث السعودي، ولا يزال يهتم ويفتخر بها على حد تعبيره، ويعتز كثيراً برسائل أصدقائه السعوديين وأبنائهم التي يحرص على قراءتها والرد عليها. في قصص الوفاء تتجلى معادن الرجال، وتبرز قيم الأمم وأخلاقها الفاضلة، وفي بلادنا يشكل الدين الإسلامي والعادات العربية الأصيلة مكارم أخلاق من الصعوبة الفكاك من تأثيرها في الآخرين، لذلك تبنت بلادنا مبدأ حوار الأديان لتكرس هذا البعد الديني الذي ربما غفل عنه البعض. ستستمر الحكايات وتتعدد الروايات عن قصص التعايش وحوار الحضارات وتمازج الثقافات؛ طالما تمسكنا بحديث نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). فمن المكارم فهم الآخر، ومد يد الحب والتسامح من أجل بناء الإنسان، وبلادنا خير شاهد على ذلك.
منيف خضير الضوي: رفحاء
المجلة العربية :: ملف العدد