البداوة من المراعي إلى أنابيب النفط

(الرِّبل) و(القريطا) و(الرقيقة) أسماء قد لا تعير لها انتباهاً ولا تلقي لها بالاً. وعندما تعلم أنها نباتات تخرج خاصة في منطقة الحدود الشمالية؛ فهذه المعلومة أيضاً قد لا تثير حماسك كثيراً، لأن كل ما تحتاج إليه هو اللون الأخضر الذي يكسو الأرض بغض النظر عن ماهيته ناهيك عن اسمه. ما يعجبك هو اللون الأخضر إذا انتشر على (فيضة) وتوسطتها شجيرات الرمث والشيح والقيصوم. ويزداد إعجابك إذا وصلت إلى أنفك رائحة (النفل) و(الرشاد) المنتشر بـ(فيضة) تداعبها الرياح الشرقية في الصباح الباكر. قد لا تستغرب أن يأتي شخص أو عدة أشخاص مبكرين في الصباح ليحجزوا هذه (الفيضة) أو ذلك (الصحن) لنزهة برية تمتد يوماً أو يومين.
حسناً، قبل سبعين عاماً كانت الأوضاع مختلفة قليلاً، وسالت دماء لحجز مثل هذه (الفياض) و(الصحون) و(الحزوم) في منطقة الحدود الشمالية. في بداية القرن الماضي، كانت هذه النباتات مثل النفط هذه الأيام. وكما هو حال النفط والصراعات التي تحدث بين الدول بسببه؛ فإن مراعي منطقة الحدود الشمالية كانت ساحة للعديد من المعارك الكبرى بين القبائل، أو كما يحلو لهم تسميتها بـ(الكونة). المعادلة جداً واضحة وبسيطة ودموية، العنصر الأول في المعادلة هو أن النباتات التي تنمو في منطقة الحدود الشمالية مفيدة جداً للإبل ولا توجد في مكان آخر من المملكة مثل نبتة (القليقلان)، وهي تنمو بكثرة لاسيما في منطقة الخشيبي شرق مدينة رفحاء وفي منطقة الحدود الشمالية عموماً. أيضاً (الرِّبل) و(القريطا) من النباتات المفضلة للأغنام، وهي حصرية لمنطقة الحدود الشمالية، مما يجعل هذه المنطقة للرعي منجم ذهب لا يوجد في مكان آخر. العنصر الثاني أن البدوي يحب أبله كما يحب أبناءه إن لم يكن أكثر في بعض الحالات المتطرفة، ويبذل الغالي والنفيس في سبيل أن يراها سمينة يكسوها الشحم واللحم. الأمر أقل حدة بالنسبة للغنم إلا أنها تبقى غالية عنده ويسخر البدوي كل إمكاناته ليراها تمشى الهوينى بسبب الشحم واللحم. عنصر التميز في نباتات المنطقة، وحب أهل البادية لإبلهم وأغنامهم؛ فتحت أبواب الصراعات للسيطرة على مناطق الرعي. أضف لذلك أن كل قبيلة حفرت لها بئراً أو وجدت لها آباراً تعلن أنها لها، وتعود إليها في الصيف إذا شح الماء وذبلت النباتات. تبقى القبائل عادة في الصيف عند آبارها، ينتظرون القطر في الشتاء لينبت تلك النباتات التي تمثل آبار نفط لنا اليوم، حتى ينتشروا بحثاً عن المراعي. هذه الحالة شكلت المجتمع الرعوي في منطقة الحدود الشمالية، فجعلت القبيلة تجتمع حول بعضها البعض، ولا تتفرق إلا في مجاميع تمنع غيرها من التحرش بها أو الاقتراب من مراعيها. ومع وجود أعراف وعادات عربية أصيلة تشكل قوانين التعامل بين القبائل إلا أن هذا لم يمنع من احتكاكات أو معارك ما زالت محفورة في ذاكرة كبار السن يتناقلونها في كل مناسبة. من حيث علموا، أم لم يعلم ذلك المجتمع الذي كان جل همه هو وجود مرعى مري وماء وفير؛ كانت سيارات شركة تكساكو وموبيل الأمريكية تجوب المنطقة لأول مرة في التاريخ في نهاية أربعينات القرن الماضي استعداداً لإنشاء أطول خط أنابيب في العالم، ليغير شكل المنطقة، ويعيد ترتيبات أولوياتها. عندما اكتشف النفط في نهاية ثلاثينات القرن الماضي بكميات وفيرة في المنطقة الشرقية؛ جاءت فكرة إنشاء خط أنابيب من بقيق في المنطقة الشرقية إلى مدينة حيفا الفلسطينية مروراً بمنطقة الحدود الشمالية، ثم تغيرت الوجهة النهائية إلى صيدا بعد احتلال العدو الإسرائيلي لفلسطين عام 1948، ثم توقف إبّان الحرب الأهلية بلبنان. هذه التفاصيل لم يعلم بها سكان منطقة الحدود الشمالية إلا أنها غيرت حياتهم إلى الأبد. فعندما بدأت المعدات بتشييد قواعد خط الأنابيب لم يدر بخلد أحدهم أن هذا الأنبوب المعدني هو الذي سيجعله وأبناءه وأحفاده ينظرون للمراعي كمتنزهات برية لا كشريان حياة، ورفاهية لا معيشة، وسيكون ما يحتويه الأنبوب هو أكسير الحياة للعالم أجمع لا لمنطقة الحدود الشمالية في الشمال الشرقي من المملكة العربية السعودية. كانت الاتفاقية التي أبرمها وزير المالية عبدالله سليمان المانع بأمر الملك عبدالعزيز رحمه الله؛ تتضمن توفير فرص عمل لأبناء المنطقة، فكان سكان المنطقة يحصلون على ريال أو ريالين أجر عمل يوم في الحفر وهو أجر مجزٍ إذا ما قارنوه بالجلوس أمام الإبل والغنم. بدأت الحياة المدنية تتسلل رويداً رويداً إلى المنطقة، إذ لم يكن المشروع فقط إنشاء خط أنابيب بل أنشئت مدن على ضفاف خط الأنابيب كرفحاء والقيصومة والعويقيلة. سكان هذه المدن هم اليوم من أبناء وأحفاد الذين جابوا المنطقة على ظهور إبلهم بحثاً عن النباتات المذكورة. من جهة أخرى قتل خط الأنابيب أماكن كانت زاخرة بالسكان والمارة كقرية لينة جنوب رفحاء التي ذكرها ياقوت الحموي في كتابه، وكان فيها قصر لمندوب الملك عبدالعزيز ليشرف على أحوال المنطقة، إلا أن سوء حظ لينة جعلها لا تقع في طريق خط الأنابيب الذي لا يعترف بالأهمية التاريخية وإنما بالأهمية الجغرافية للمكان، فأصبحت لينة قرية صغيرة تتبع المحافظة الفتية رفحاء التي أنشأها خط الأنابيب. من غرائب خط الأنابيب أن إحدى أولويات حياة البدوي قبل خط الأنابيب كانت البحث عن الماء وحجز الآبار وحمايتها لقلتها وصعوبة الحصول عليها. هذه المشكلة أصبحت من التاريخ بعد أن قامت الشركة بحفر عدد من آبار المياه على طول الخط عند مراكز الضخ والمراقبة والتشغيل. هذه المراكز أصبحت مدن منطقة الحدود الشمالية. لم تتوقف بركات خط الأنابيب عند حفر الآبار بل أنشئت المدارس والمراكز الصحية، ثم الكهرباء، فتوطن بدو المنطقة، وهو ما أدى إلى قيام نوع جديد من الاستقرار في المنطقة. بدأ البدو ينزحون إلى المدن التي أنشأها خط الأنابيب على طول الخط تاركين خلفهم بيوت الشعر لتصبح بعد فترة من الزمن أداة للتنزه في المخيمات الربيعية ووسط الاستراحات. البعير لم يسلم من التغيير فلم يصبح أداة للتنقل بل أصبح (مودل) للمزاين واقتنائه هواية ورفاهية. وهكذا بدأت الأجيال اللاحقة تنظر للفيضة الخضراء بأنها بساط أخضر يصلح للتنزه والتصوير ولم يهتموا بقيمتها الغذائية التي كان أجدادهم يتقاتلون على توفيرها لإبلهم، ولا يعنيهم إن كانت (رِبل) أو (قريطا) مادام لونها أخضر.

د.سهل رغيلان الشلاقي: رفحاء
المجلة العربية :: ملف العدد