الملمات
ذكر أبو الخير عتيق بن محسن الوراق، وهو أحد الرواة الثقات، والكتب الغزيرة كنهر الفرات، أنه اعتاد تأبط كتاب حين ممارسته المشي، وذلك بعد الخامسة فجر كل يوم، في ممشى حي آل فريان، وهو حي يقترب من ضفاف وادي نمار غرب الرياض، حيث الهواء العليل، وقدوم الناس قليل، ولا صخب لمركبات أو أصوات تجول، ثم يصف حاله وهو يقول: أركن بعد دورة أو دورتين إلى مكان ظليل، وأحلق مع كتابي حتى تأتيني الطيور، وبيننا موعد صباحي يدور، أنثر الحب لها وهي حولي في حبور، وسعادتي مثلها في انتشاء وسرور. وأقفل عائداً إلى عشي الصغير، بعد وقوف أمام خباز التميس، وبجانبه فوال وحميس، لآخذ إفطاري بشوق عاشق وأنيس.
إلا أن الحجر المنزلي غير أحوالي؛ فالفجر لم يعد فجراً من غير مسجد ولا صلاة، والأزقة التي أعبرها في سبات، والخلق كافة في بيات، ومحاولة وصولي إلى الممشى تتطلب تطبيق النظام، ورجال الأمن يرددون عليّ: ابق في بيتك تعش في سلام، لا تقارب لا تخالط فالفيروس بيننا كالسهام. وتململ في ذكر حاله الذي طواه بالكتمان: أما بيتي فهو موحش الجدران، وجميع الحجرات تئن من الكتب وخزائن الخيزران، ليس لي في بيتي هذا إلا حجرة واحدة، هي للمبيت والأكل والجلوس، واتخذت في ركنها زاوية طبخ محدود، أو شرب ساخنٍ من غير مجهود، كيف لعازب يمتهن القراءة والكتابة، وهو دوماً يُغلق بابه، يحاور ذاته ويناقش سطوره وأوراقه، مع حاله في حاله، بعيداً عن رفاقه؛ كيف لي أن أستنشق الهواء؟ إن خرجت عند الباب قالوا: وباء! وإن رضيت بالسجن فهو غُثاء!
وانهمر راوياً أوجاع الزمان: أريد أن أمشي أجدد الروح والحياة، الوقت مع وحدتي يشعل الظلمات والحسرات، يوقظ وجع اختياري للعيش منفرداً، لا أريد التذكر والتحسر على ما فات، سأصبر على آلام البيات، ولدي ما يشغلني لأوقات طويلة، فأنسى الكون والجائحات، في عالمي كثيراً ما تعذبت روحي من الغانيات اللاتي يتراقصن بين سطوري وبعض الكلمات، أو عبر أغنية ليلة مترعات، لا سكرة فيها ولا آهات، ولا ألم يوقظ كآبة الملمات، وسود الليالي المكفهرات!
انفرط عمري بعد فراق سيدتي الأولى، آه يا أمي ها أنا في بلوى، وأضيق من نفسي وأتمنى حياة أخرى، لم ترضَ بي امرأة بعدك ولا التي أهوى، جحدت حبي وتضحياتي وما كنت ألقى، آه من التفرد مع هواجسي وما يخفى، حتى أصدقائي تساقطت أرقامهم الواحد بعد الآخرَ، وأكثرهم رأيته من حياتي ساخرا، يتشمتون بي وبما ألاقي من وحدتي الدائمة، وقناعاتي في العيش بين أموات وأحياء فانية!
خالد أحمد اليوسف: الرياض
المجلة العربية :: إبداع